بحوث فقهیة معاصرة

اشارة

اسم الکتاب: بحوث فقهیة معاصرة.

من إفادات: سماحة المرجع الدینی الکبیر آیة الله العظمی

الشیخ بشیر حسین النجفی(دام ظله).

بقلم: حجة الإسلام والمسلمین العلامة ضیاء الدین زین الدین.

الطبعة: الثانیة/ صیف 2011م/1432ه_

رقم الإیداع بدار الکتب والوثائق ببغداد (346)

لعام (2012م)

ص: 1

اشارة

بحوث فقهیة معاصرة

ص: 2

بحوث فقهیة معاصرة.

تقریر بحوث

سماحة ایة الله العظمی المرجع الدینی الکبیر

الشیخ بشیر حسین النجفی

دام ظله الوارف

بقلم

حجة السلام و المسلمین العلامه

الشیخ ضیاء الدین زین الدین

ص: 3

ص: 4

ص: 5

ص: 6

بسم الله الرحمن الرحیم

قد وافانی التوفیق الإلهی لاستفادة هذه الأبحاث الفقهیة التی تتکفل ببیان مسائل تهم أهل العصر مع جماعة من الأخوة الأفاضل، وکان ذلک فی لیالی شهر رمضان المبارک سنة 1402 إلی سنة 1404 للهجرة النبویة المبارکة تحت ظل الحضرة العلویة المقدسة وقاها الله وإیانا صروف الدهر وریب الزمان، ولعل الله تعالی ینفع بها بعض الأخوة فتکون ذخراً لی یوم لا ینفع مال ولا بنون آملاً من الله تعالی جزیل ما هو أهله من

المنة والفضل، والحمد لله رب العالمین وصلی الله علی محمد آله الطاهرین.

المقرر

ص: 7

ص: 8

أمارة سوق المسلمین

من الأمارات الشرعیة المعروفة والمشهورة أمارة سوق المسلمین، وهی تعنی الاعتماد علی هذه السوق لإثبات إباحة ما یحتمل الحرمة فیه، وطهارة ما تحتمل نجاسته، وذکاة ما یحتمل عدم ذکاته.

وهذه الأمارة بعنوانها العام لا إشکال فیها، وهی من ضروریات المجتمع الإنسانی قبل أن تکون من ضروریات المجتمع الإسلامی؛ إذ ما لم تترتب آثار السوق فی مشروعیة ما یوجد فیه من حیث تملکه إیاه أو تذکیته أو طهارته لا تستقیم معیشة الإنسان بالنحو الطبیعی المعهود.

إلا أن ما ینبغی التأمل فیه هو مدی أبعاد هذه القاعدة أو شمولها لحالات من الشک قد لا تجری فیها؛ لأن الأمر یختلف مع من یدخل السوق من الناس فهو:

1_ قد یؤمن إیماناً جازماً لسبب من أسباب الإیمان الخاصة والعامة بمشروعیة ما فی ید البائع من السلع.

2_ وقد تعکس معه الحالة تماماً إذ هو قد یؤمن بعدم مشروعیة ما فی ید البائع من السلع لواحد من الأسباب المتقدمة.

3_ وقد یغفل غفلة تامة عن الالتفات إلی المشروعیة وعدمها.

ص: 9

4_ وقد یشک فی المشروعیة وعدمها ولکن دون قرینة تؤکد أیّاً من جانبی هذا الشک.

5_ وقد یشک فی هذه المشروعیة مع وجود قرینة غیر معتبرة شرعاً علی المشروعیة کما لو وجدت کتابة غیر معروفة المستند أو أخبار من لا یوثق بخبره وشبه هذا من القرائن.

6_ وقد یؤید الشک بقرینة _ غیر معتبرة أیضاً _ علی عدم المشروعیة فالشارع لا یرتب الأثر علیها إلا أن لها تأثیرها النفسی لدی الشاک وترجح لدیه جانب العدم.

7 و8_ وقد تکون هاتان القرینتان مما یعتبر شرعاً ویرتب الشرع علی أساسهما الحکم فی جانب المشروعیة أو عدمها.

وواضح أن جریان الأمارة إنما هو فی المجال الذی لا یکون فیه علم واقعی أو ما یقوم مقامه شرعاً فأمارة سوق المسلمین مع هذه الملاحظة لا یمکن إجراؤها فی کل من الصور الأولی والثانیة والسابعة والثامنة؛ إذ فی الأولیین هناک اعتقاد جازم ولا یرجع معه إلی الأمارات، وفی الأخریین هناک دلیل شرعی یرتب الشرع الأثر علیه وإن لم یبلغ إلی درجة العلم الواقعی کما لو قامت البینة الشرعیة علی أحد الاحتمالین.

ولکن التساؤل عن الصور الأربع الأخری هل هی جمیعاً مما تطّرد فیه هذه الأمارة أو لا؟

ولعل الإجابة بالإیجاب واضحة فی الصورة الثالثة والرابعة والخامسة؛ إذ هی جمیعاً مما

علم جریان الأمارة فیها، ولکن الموقف یختلف بالنسبة إلی الصورة السادسة حیث تواجد قرائن تؤید الشک فی عدم المشروعیة، أما کقرینة فعلیّة فی المبیع أو قرائن عامة فی ذوی السوق من عدم الالتزام والمبالاة فی مصدر جلب تلک السلع وإلی أین تنتهی، ویقع البحث فی فصلین:

ص: 10

الفصل الأول/ فی أدلة أمارة سوق المسلمین

ولاستیضاح الإجابة عن هذا لا بد من ملاحظة ما عرض من أدلة لهذه الأمارة لدی الفقهاء، ومدی دلالتها واستیعابها لصور الشک المتقدمة، وقد استدل علیها بأدلة:

الأول: الإجماع، وقد صدرت هذه الدعوی من جملة من الأعلام، إلا أن إثبات أن هذا الإجماع تعبّدی مشکل جداً، ولا سیما مع تکاثر الروایات الواردة فی هذه الأمارة، إذ مع وجود الروایات یعتبر الإجماع محتمل المدرک ولا شک، ومن المعروف أنه لیس بحجة وإن کان متحققاً فعلاً بل الحجة أدلته.

الثانی: السیرة العملیة من المتشرعین کافّه خاصتهم وعامتهم منذ العصور الإسلامیة الأولی وحتی الآن.

وهذه السیرة فی الجملة مما لا إشکال فیها إلا أنها دلیل لبّی فلا بد من الاقتصار علی القدر المتیقن منها، والمتیقن هو ورودها فی صورة الغفلة والشک

ص: 11

غیر المعتضد بقرینة علی المشروعیة أو عدمها، وأما ورودها فی صورة الشک مع قرائن تؤید عدم المشروعیة فهذا ما لم یعلم من شأنها إلا أن یدعی عموم السیرة.

إذن فلا یمکن الاستدلال بهذه السیرة علی الحکم مع مثل هذا النحو من الشک.

الثالث: ما رواه الشیخ الکلینی عن القاسم بن یحیی عن سلیمان بن داود عن حفص بن غیاث عن أبی عبد الله(علیه السلام) قال: قال له رجل: إذا رأیت شیئاً فی یدی رجل یجوز لی أن أشهد أنه له؟ قال: نعم؛ قال الرجل: أشهد أنه فی یده ولا أشهد أنه له فلعله لغیره، فقال أبو عبد الله(علیه السلام): أفیحل الشراء منه؟ قال: نعم، فقال أبو عبد الله: فلعله لغیره فمن أین جاز لک أن تشتریه ویصیر ملکاً لک ثم تقول بعد الملک هو لی وتحلف علیه، ولا یجوز أن تنسبه إلی من صار ملکه من قبله إلیک؟ ثم قال أبو عبد الله(علیه السلام): لو لم یجز هذا لم یقم للمسلمین سوق((1)).

واستفادة حجیة السوق من هذه الروایة بمناسبة التعقیب الأخیر من مَحکی قول الإمام(علیه السلام): «لو لم یجز هذا لم یقم للمسلمین سوق» حیث یمکن استفادة أن هذه السوق حجة علی ما فیها، ولا ینبغی السؤال عما یُشتری فیها ویباع، ویکفی أن تکون الصبغة العامة فی السوق هی الإسلام لیشرع التصرفات فیها أخذاً وعطاءاً وأکلاً وشرباً ولباساً ونحو ذلک.

ص: 12


1- الکافی 7: 384 ب (9) من أبواب الشهادة ح1، وسائل الشیعة 27: 292 ب (25) من أبواب کیفیة الحکم.

ویلاحظ علی الاستدلال بالروایة:

أولاً: أن فی سندها حفص بن غیاث وهو ضعیف _ علی المختار((1))_ لأنه مخالف للحق فی الاعتقاد وإن قیل إن الأصحاب عملوا بما یرویه لوثاقته وتحرّزه عن الکذب فیما یرویه.

وثانیاً: هی منصّبة علی أمارة أخری وهی ید المسلم لا سوق المسلمین؛ إذ إن المقصود فی کل من السؤال والجواب إنما هو هذه الید، أما سوق المسلمین فقد لوحظت فیها عرضاً.

وثالثاً: أن الروایة صدرت فی عصرٍ کان الناس أقرب للالتزام منهم إلیه فی الوقت الحاضر، فصحیح أن العامة مذ انحرفوا فی عقائدهم عن المنهل الروی لحجج الله من أهل البیت(علیه السلام)، إلا أن ارتباطهم لم ینقطع عن الظواهر الإسلامیة العامة التی تحفظ للإسلام صبغته البارزة فی المجتمع، ومن تلک الظواهر مجریات السوق؛ إذ هناک فروق محسوسة بین سوق المسلمین وأسواق غیرهم فی التعامل والتذکیة وشبههما مما یحفظ لتلک المظاهر وجودها، وتسریة حکم هذه السوق إلی حالات ابتعد فیها الناس حتی عن تلک الظواهر قد لا یکون فی محله.

ولکن مما لا ینبغی الغفلة عنه أن الروایة وردت فی موقع الشهادة، وهی إنما ترد فی موقع یأتی التنازع فیه فی مشروعیة ما تحت ید صاحب الید أو عدم المشروعیة، وهذا النزاع یمکن أن یکون قرینة تؤید عدم المشروعیة کما لا یخفی، إذن فالمناقشة الثانیة والثالثة غیر واردتین، وتبقی المناقشة الأولی من ضعف السند فیها کما ألمحنا.

ص: 13


1- هذا بناءً علی ما کان علیه (دام ظله)فیما مضی من عدم العمل بالخبر الموثق، ولکنه تبدل مبناه فیما بعد.

إذن فالروایة_ إن تمت سنداً_ یظهر منها الإطلاق لجمیع حالات الشک السابقة حتی وإن کانت هناک قرائن علی عدم المشروعیة ما لم تکن تلک القرائن معتبرة شرعاً.

الرابع: ما رواه أبو حمزة الثمالی عن أبی جعفر(علیه السلام) (فی حدیث) أن قتادة قال له: أخبرنی عن الجبن، فقال: لا بأس به، فقال: إنه ربما جعلت فیه أنفحة المیت؟ فقال: لیس به بأس إن الأنفحة لیس لها عروق ولا فیها دم ولا لها عظم، إنما تخرج من بین فرث ودم، وإنما الأنفحة بمنزلة دجاجة میتة أخرجت منها بیضة فهل تأکل تلک البیضة؟ قال قتادة: لا ولا آمر بأکلها، قال أبو جعفر(علیه السلام): ولم؟ قال: لأنها من المیتة، قال: فإن حضنت تلک البیضة فخرجت منها دجاجة، أتأکلها؟ قال: نعم، قال فما حرم علیک البیضة وأحل لک الدجاجة؟ ثم قال: فکذلک الأنفحة مثل البیضة، فاشتر الجبن من أسواق المسلمین، من أیدی المصلین ولا تسأل عنه إلا أن یأتیک من یخبرک عنه((1)).

وموضع الدلالة فی الروایة: (فاشتر الجبن من أسواق المسلمین من المصلین.. إلخ).

والمتأمل فی هذه العبارة یستوقفه قید (المصلین) فی المسلمین أصحاب السوق، إذ لا بد أن یؤخذ فی القید الاحترازیة وإلا أصبح لغواً، فمعناه أن من علم التزامه بالصلاة حمل سلوکه علی الصحة وإلا فلا.

ومن الواضح أن ذکر المصلین لا یقصد به الصلاة بالخصوص فمن علم منه الصلاة أخذ منه دون سؤال وإلا فلا، فإنه لم یقل به أحد والذی یبدو أن قید

ص: 14


1- وسائل الشیعة 24: 179 ب (33) من أبواب الأطعمة المحرمة ح1.

الصلاة أخذ کنایة عن الالتزام بتلک المظاهر العامة الحاکمة فی المجتمع الإسلامی، والتی من أبرزها الصلاة، وعلی هذا فالروایة أخذت هذا الالتزام قیداً فی حجیة سوق المسلمین، فیمکن اعتبار هذه الروایة مقیدة للإطلاق فی ما سواها من روایات لا تشیر إلی هذا القید، کما هو ظاهر الروایة السابقة لو تَمَّ سندها، وإن کانتا مثبتتین.

الخامس: ما رواه سعد عن أبی جعفر عن الحسین بن سعید عن فضالة عن أبان عن إسماعیل بن الفضل قال: سألت أبا عبد الله(علیه السلام): عن لباس الجلود والخفاف والنعال والصلاة فیها إذا لم تکن من أرض المصلین، فقال: أما النعال والخفاف فلا بأس بها((1)).

وفی سندها إشکال من جهة أبان فإنه ابن عثمان وکان ناووسیاً((2))، کما لا یخلو السند عن إطلاق یحتاج إلی تقیید فی کل من سعد وأبی جعفر إذ الاحتمال فیهما وارد.

وظاهرها _ کسابقتها_ حصر جواز لبس الجلود فی الصلاة فی خصوص ما یجلب من أرض المصلین دون ما یجلب من غیرها وهو أیضاً کنایة عن الالتزام بهذه المظاهر العامة، فلا وجه لما احتمله سیدنا الأستاذ من أن إطلاق المصلین هنا أرید به المسلمین بدلالة الآیة الکریمة: [قَالُوا لَمْ نَکُ مِنَ الْمُصَلِّینَ]((3))؛ إذ إن

ص: 15


1- وسائل الشیعة ب (38) من أبواب لباس المصلی ح3.
2- هذا بناء علی ما کان علیهa فیما مضی من عدم العمل بالخبر الموثق ولکنه تبدل مبناه فیما بعد.
3- سورة المدثر/44.

تعبیری المسلمین والمصلین یکونان مترادفین مصداقاً بناءً علی أن الکفار مکلفون بالفروع کما هم مکلفون بالأصول، وحینئذ یکون نتیجة سؤال السائل عمّا یؤخذ من أرض غیر المسلمین؛ فهذا الاحتمال غیر وجیه لسببین:

الأول: ما ذکرناه فی مباحث الحجة من عدم تمامیة الدلالة فی نفس الآیة علی هذا الاحتمال؛ إذ الکافرون لیسوا مکلفین بالفروع فلا ترادف.

الثانی:_ مع التنزل _ أن مجری الکلام فی الروایة سؤالاً وجواباً إنما هو عن الأخذ من أولئک الذابحین غیر الملتزمین بمبادئ الشرع العامة مما یرجح عدم جریان تذکیتهم وفق الضوابط الشرعیة، ولهذا فإن الصلاة لیست هی المقصودة فی المسألة بل هی أخذت کطریق إلی تحقق عنوان الالتزام بالشریعة وحفظ المظاهر باعتبار ما لها من أهمیة فی هذه المظاهر، فغایة السؤال تکون حینئذ عن شراء الجلود ومشتقاتها ممن لا یلتزمون بأحکام الشریعة فهل أصلی فیها أو لا؟ ولهذا کان تفصیل الإمام(علیه السلام) بین النعل والخف من جانب وغیرهما من جانب آخر؛ لأنهما مما یجوز لبسهما فی الصلاة وإن کانا نجسین بالنجاسة العارضة؛ لأنهما لا یستران العورة.

والروایة مع هذا المقید تقرب فی الدلالة من سابقتها فی حجیة سوق المسلمین حین یعلم التزامهم بالمظاهر العامة للشریعة دون ما إذا لم یعلم منهم هذا الالتزام.

السادس: ما رواه عبد الرحمن بن الحجاج، قال: سألت أبا عبد الله(علیه السلام) عن الفراء أشتریه من الرجل الذی لعلی لا أثق به، فیبیعنی علی أنها ذکیة أبیعها علی

ص: 16

ذلک؟ فقال: إن کنت لا تثق به فلا تبعها علی أنها ذکیة إلا أن تقول: قد قیل لی إنَّها ذکیة((1)).

والروایة معتبرة السند إلا أن الالتزام بدلالتها منطوقاً مشکل، فهی تشترط الوثوق بالتذکیة فی جواز التصرف فی البیع فیما یتوقف علیها، وهذا یعنی إسقاط حجیة سوق المسلمین فالإمام(علیه السلام) یقول: (إن کنت لا تثق به فلا تبعها علی أنها ذکیة) ومنافاة هذا المنطوق للسیرة التی عرف شمولها لبعض صور المشکوک واضح.

إذن فلابد من حمل الثقة المطلوبة هنا علی تلک الثقة العامة التی تتأتی من حفظ المجتمع للمظاهر والرسوم الإسلامیة العامة، لا تلک الثقة الخاصة التی تنشأ من المخالطة واستمرار الإتباع الشخصی لأحکام الدین الحنیف من کل بائع فی السوق بالخصوص.

إلا أنه یمکن القول: إن الروایة بعیدة عن السوق وأمارته وأنها تحکی فقط عن شراء من شخص عابر یشک المشتری فی تصرفاته والتزامه، فهی أجنبیة عما نحن فیه.

هذه نماذج من أدلة هذه الأمارة وقد اتضح من خلالها أن سوق المسلمین لیست حجة علی الإطلاق، بل حجیتها فقط فی حالة معرفة المشتری بالتزام البائعین فیه وحفظهم لمظاهر الشریعة ومتقیدین بما یحفظ لهذه المظاهر وجودها، والإطلاق الموجود فی بعض الروایات یمکن تقییده بالقیود الواردة فی بعضها الآخر کما هو واضح من روایة أبی حمزة الثمالی من أمر الإمام أبی جعفر(علیه السلام)

ص: 17


1- وسائل الشیعة 17: 172 ب (38) من أبواب ما یکتسب منه ح2.

لقتادة بالشراء، وعدم السؤال من سوق المسلمین الملتزمین بالصلاة کعنوان لالتزامهم بمظاهر إسلامیة المجتمع الذی یکون.

ولئن نوقش فی إمکان تقیید الإطلاقات فی ذلک البعض بمثل هذه القیود فلا أقل من أنها تثیر الشک فی حجیة السوق بدونها، والشک فی الحجیة یساوق عدم الحجیة کما هو معلوم، فیبقی الإطلاق بحاجة إلی دلیل واضح بجعل الحجیة له دون تلک القیود.

ویضاف إلی ما تقدم روایاتٌ أخری یمکن أن تکون مؤیدة للقید المذکور، ونقول: مؤیدة، إذ إن فی سندها ضعفاً لا ینهض فی اعتبارها دلیلاً شرعیاً، فمنها:

1_ ما رواه الشیخ1 عن أحمد بن محمد عن سعد بن إسماعیل عن أبیه إسماعیل بن عیسی قال: سألت أبا الحسن(علیه السلام) عن جلود الفراء یشتریها الرجل فی سوق من أسواق الجبل أیسأل عن ذکاته إذا کان البائع مسلماً غیر عارف؟ قال: علیکم أنتم أن تسألوا عنه إذا رأیتم المشرکین یبیعون ذلک، وإذا رأیتم یصلون فیه فلا تسألوا عنه((1)).

ورواه الشیخ الصدوق1 فی الفقیه أیضاً.

والإشکال فی السند یأتی من جهتی کل من سعد بن إسماعیل وأبیه إسماعیل بن عیسی فکل منهما لم یثبت توثیقه، کما یلاحظ أن فی النسخ اختلافاً؛ إذ فی مطبوع کل من کتاب الفقیه والتهذیب والوسائل یوجد فیها (الجبل) إلا أن فی

ص: 18


1- تهذیب الأحکام 2: 348 ب (17) من أبواب الصلاة، ح76، وسائل الشیعة 3: 492 ب (50) من أبواب النجاسات ح7.

هامش نسخة الفقیه المطبوعة حدیثاً نقل عن بعض المخطوطات (الجیل) و(الخیل) و(الحثل)، وفسر الأخیر بهامش المطبوعة القدیمة أنهم طائفة من الیهود((1)).

ودلالة الروایة واضحة علی عدم کفایة دعوی الإسلام فی وصف ذوی السوق، بل لابد من اقتران هذه الدعوی بما یحفظ للشریعة مبادئها فی حیاتهم وبین أظهرهم، ولا سیما الصلاة فیما یبیعونه نوعاً.

2_ ما رواه الشیخ الکلینی عن علی بن إبراهیم عن أبیه عن إسماعیل بن مرار عن یونس عنهم(علیه السلام) قالوا خمسة أشیاء ذکیة مما فیها منافع الخلق: الأنفحة، والبیضة، والصوف والشعر، والوبر، ولا بأس بأکل الجبن کله مما عمله مسلم أو غیره، وإنما یکره أن یؤکل سوی الأنفحة مما فی آنیة المجوس وأهل الکتاب لأنهم؛ لا یتوقون المیتة والخمر((2)).

وضعف السند فی الروایة من جهة إسماعیل بن مرار إذ هو ممن لم تثبت وثاقته وإن ادعیت من البعض لروایة من لا یروی إلا عن ثقة عنه، إلا أن هذه الدعوی غیر مسلّمة المدرک فلا تتم.

ودلالة الروایة علی المطلوب تأتی من جهة التعلیل العام الذی بنی علیه الحکم فی کراهة تناول ما فی أیدی الکتابیین لتناولهم المیتة والخمر وعدم توقیهم منهما، وهذا یعنی شمول الحکم لکل من عرف عنه عدم

ص: 19


1- من لا یحضره الفقیه 1: 267 ب (39) فیما یصلی فیه وما لا یصلی فیه من الثیاب ح39.
2- الکافی 6: 260 ب (9) ما ینتفع به من المیتة وما لا ینتفع به منها.

التوقی وإن کان من المسلمین.

3_ ما رواه محمد بن الحسین (الحسن) الأشعری قال: کتب بعض أصحابنا إلی أبی جعفر الثانی(علیه السلام) ما تقول فی الفرو یُشتری من السوق؟ فقال: إذا کان مضموناً فلا بأس((1)).

وواضح أن السؤال کان عن السوق المتعارف بین المسلمین فاللام هی لام العهد الحضوری أی هذه السوق التی ندخلها والإمام قیَّد المشروعیة بضمان التذکیة ولو کان ناشئاً من حفظ مظاهر الالتزام بأحکام الإسلام، وإلا کان القید لغواً.

إذن فحصیلة هذه الروایات کافة أن السوق یجب أن یکون للمسلمین وأن لا یکون هؤلاء المسلمون ممن عهد منهم عدم الالتزام _ وإن لم یعلم الالتزام _ أما إذا عهد منهم التحلل وعدم الالتزام فلا ینبغی إجراء حکم سوق المسلمین علیهم.

ص: 20


1- الکافی 3: 399 ب (60) اللباس الذی تکره الصلاة فیه وما لا تکره.

الفصل الثانی آثار أمارة سوق المسلمین

الفصل الثانی: آثار أمارة سوق المسلمین

قلنا: إن الأثر الجامع لقاعدة سوق المسلمین بعد اجتماع شرائطها هو البناء علی مشروعیة ما شک فی مشروعیته، وتجمع هذه الکلمة أبعاداً ثلاثة بارزة لعل من المجدی الوقوف عند کل منها بالخصوص، وهذه الأبعاد هی:

1_ ملکیة ما احتمل عدم ملکیته؛ إذ لا تصح معاملة البیع من دون إحراز أن ما یباع صالح للتملک.

2_ طهارة ما احتمل نجاسته؛ لأن بیع النجس لا یصح إلا بشروط معینة.

3_ تذکیة ما یشک فی عدم تذکیته، بل حلیة کل ما یشک فی حرمته سواء أکان من جهة التذکیة أم غیرها.

أما البعد الأول: فإن ملکیة ما احتمل عدم ملکیته هو مفاد کثیر من الروایات سبق بعضها، ویضاف إلیه ما یمکن أن یعد طوائف تشهد علی هذه الملکیة.

الطائفة الأولی: ما ورد فی بیع الرقیق المدعی للحریة، ولم تکن له بینة علی دعواه فمنها ما رواه:

ص: 21

1_ العیص بن القاسم عن أبی عبد الله(علیه السلام) قال: سألته عن مملوک ادعی أنه حر ولم یأت ببینة علی ذلک أشتریه؟ قال: نعم((1)).

والروایة وردت بطریق صحیح لدی کل من الشیخ الطوسی والشیخ الصدوق رضوان الله علیهما، وهی وإن وردت فی المملوک الذکر إلا أن الذکورة لا خصوصیة لها فی الحکم _ کما هو واضح.

2_ المشایخ الثلاثة5 عن حمزة بن حمران قال: قلت لأبی عبد الله(علیه السلام)، أدخل السوق وأرید أن أشتری جاریة فتقول إنی حرة، فقال اشترها إلا أن تکون لها بینة((2)).

وسندها مخدوش بحمزة بن حمران فهو لم یوثق.

والفرق ما بین دلالتی الروایتین أن فی الأولی عموماً یشمل غیر السوق مما یری بأیدی الناس من المالکین، بینما خصصت الثانیة ما یعرض فی السوق من الجواری ولهذا قیل: إن الأولی من أدلة قاعدة الید والثانیة من أدلة أمارة سوق المسلمین، بینما خلط آخرون فأوردوهما تارة فی أدلة أمارة الید وأخری فی أدلة سوق المسلمین، ولکن سیأتی بیان ما فی هذا الوجه من الاضطراب إن شاء الله.

الطائفة الثانیة: ما دل علی حلیة ما لم تعلم حرمته بالذات وذکر سوق المسلمین کموردٍ لهذه القاعدة منها ما رواه:

ص: 22


1- تهذیب الأحکام 7: 69 ب (6) فی ابتیاع الحیوان ح31، من لا یحضره الفقیه 3: 162 ب (69) البیوع ح55.
2- الکافی 5: 213 ب (93) فی شراء الرقیق ح13.

مسعدة بن صدقة عن أبی عبد الله(علیه السلام) قال سمعته یقول: کل شیء هو لک حلال حتی تعلم أنه حرام بعینه فتدعه من قبل نفسک، وذلک مثل الثوب یکون قد اشتریته وهو سرقة أو المملوک عندک ولعله حر قد باع نفسه أو خدع فبیع أو قهراً.. والأشیاء کلها علی هذا حتی یستبین لک غیر ذلک أو تقوم به البینة((1)).

والروایة ضعیفة السند لوجود مسعدة بن صدقة فیها، وهو ممن لم تثبت وثاقته((2))، وقیل عنه:إنه عامی أو بتری.

الطائفة الثالثة: ما ورد فی ما اشتبه أنه کان سرقة أو خیانة إذ إن ترتب آثار سوق المسلمین لإثبات الملکیة فیما إذا لم یعلم أنه المسروق بعینه فمنها ما رواه:

1_ أبو بصیر قال: سألت أحدهما8 عن شراء الخیانة والسرقة، قال: لا، إلا أن یکون قد اختلط معه غیره فأما السرقة بعینها فلا((3)).

والروایة معتبرة سنداً، وهی تفید المنع فی خصوص ما علم أنه مسروق، ومن دون هذا العلم یجری الحکم بتملک البائع له بحجیة سوق المسلمین، وقریب منها مضمرة سماعة((4)).

ص: 23


1- وسائل الشیعة 17: 336 ب (1) من أبواب البیع وشروطه ح4.
2- هذا ما کان(دام ظله) بانیاً علیه ثم عدل إلی توثیقه فیما بعد.
3- وسائل الشیعة 17: 335 ب (1) من أبواب عقد البیع وشروطه ح4.
4- وسائل الشیعة 17: 336 ب (1) من أبواب البیع وشروطه ح6.

2_ قرب الإسناد بسنده عن علی بن جعفر عن أخیه موسی قال سألته عن رجل سرق جاریة ثم باعها یحل فرجها لمن اشتراها؟ قال: إذا أنبأهم أنها سرقة فلا یحل وإن لم یعلم فلا بأس((1)).

والظاهر أن الروایة تامة السند، وهی رتبت حرمة الوطء علی ما إذا أخبر البائع المشتری بذلک بل علی ما إذا أفاده الخبر علماً بالسرقة؛ إذ لو کان مجرد الإخبار کافیاً لما عقب بقوله(علیه السلام): (وإن لم یعلم فلا بأس)، فهذا التعقیب یعنی أن الشرط إنما ذکر لطریقیته إلی علم المشتری لا أنه هو مناط التحریم؛ ولهذا فلو أخبر البائع وغیره المشتری من دون أن یستوجب هذا الخبر علماً لدیه فلا یتأتی الحکم بالحرمة.

وهذا المقدار من الروایات کافٍ فی الدلالة علی المطلوب بل فیها ما یدل علی إباحة الفرج کما فی تلک الروایات التی تضمنت جواز شراء الرقیق وإن ادعی أنه حر، ما لم یعلم لقرینة من القرائن الموجبة للعلم أنه صادق فی دعواه؛ إذ مع هذا العلم یخرج الأمر عن مجال قاعدة سوق المسلمین کما سبق أن عرفنا.

وهنا إشکال لا بد من استیضاح ما فیه وهو:

أن ما یثبت ملکیة المعروض فی السوق للبائع لیست هی أمارة سوق المسلمین بل أمارة الید، فإذا عُرِضَ شیءٌ للبیع فی السوق فأقصی ما تدل علیه قاعدة السوق أن عارضه یملک حق التصرف فیه، وأما أن هذا الشیء ملکه هو

ص: 24


1- قرب الإسناد: 267 باب ما یحل من البیوع ح1064.

بالذات فلا تدل علیه البتة، بل هو مجال قاعدة الید، وهذا یعنی أن مورد الأخبار السابقة جمیعها أو معظمها إنما هو قاعدة الید، ولیس سوق المسلمین.

ولمعرفة ما فی الإشکال، والفرق ما بین القاعدتین، لا بد من التأمل قلیلاً فی مفادهما، فنقول:

إن ملکیة إنسانٍ لشیء لا تثبت إلا بعد إحراز أمرین:

1_ قابلیة المملوک لأن یتملک شرعاً.

2_ قابلیة المالک لتملک ذلک المملوک.

ومعنی إحراز القابلیة فی الجانبین لیس هو إحراز الإمکان العقلی المطلق، بل المقصود هو الصلاحیة الفعلیة لإضفاء هذه العلاقة الاعتباریة من الجانبین معاً فیقال: إن المملوک صالح فعلاً لأن یملکه زید وإن زیداً صالح کذلک لملکیة هذا المملوک، وأما إحراز هذه الصلاحیة الفعلیة من واحد من الجانبین فقط دون الجانب الآخر فهو لا یسمح لاعتبار علاقة الملکیة فی المورد، فإثبات أن هذا القلم مثلاً صالح فعلاً لأن یملکه شخصٌ من الناس لا یقتضی تلک العلاقة؛ إذ إن تلک الصلاحیة وحدها لا تعنی أننی أنا الذی أملک هذا القلم ما لم یحرز صلاحیتی أنا لأن أملکه وبالطرق المشروعة لدی العقلاء.

وهکذا الأمر بالعکس لو تمت صلاحیتی أنا لأن أملک شیئاً من الأشیاء فإن هذا لا یعنی الحکم بأننی أملک هذا القلم بالذات ما لم تکن فی القلم صلاحیة لأن أملکه أنا، وهکذا.

ص: 25

ولهذا نقول: إن الملکیة الاعتباریة وإن لم تکن من مقولة الإضافة_ لأنها لا وجود لها وراء الاعتبار_ إلا أن مفهوم الملکیة ذاته متقوم بهذه الإضافة؛ لأنه یعنی صورة من صور انتساب شیء لشیء بنحو معین، إذن فلتحقق مفهوم الملکیة لابد من إحراز المالک والمملوک لکی یرد علیهما اعتبارها وإلا فلا.

وبهذا التقریر الواضح یتبین مورد القاعدتین، فقاعدة سوق المسلمین إنما تُثبِت الطرفَ الأول من طرفی الملکیة بمعنی أن هذا الإناء أو هذا اللحم أو الحیوان المعروض فی سوق المسلمین فیه صلاحیة فعلیة لأن یملکه مالک معین إلا أنها تترک تعیین المالک إلی قاعدة الید التی تثبت بدورها أن البائع الذی بیده هذه السلعة المعروضة هو المالک دون غیره.

إذن فکل من القاعدتین تتناول جانباً لا تتناوله القاعدة الأخری مع أن کلاً منهما أمارة شرعیة فی مجالها تتناول إثبات مدلولها ولوازمه من دون تدافع، فحین نری مقداراً من اللحم بید زید یعرضه فی السوق تُثبت قاعدة الید أن هذا اللحم له ولا یجوز مزاحمته فیه، وتصح کافة تصرفاته المشروعة علیه، ولکن هل أن اللحم بالذات مما یمکن تملکه له کما لو احتمل أنه میتة أو نجس العین؟ إن الإجابة عن هذا السؤال لیس من مجال قاعدة الید، وإنما هو من مهمة أمارة سوق المسلمین فیصح شراؤه وتملکه واستعمالاته الأخری، کما أن هذه الأمارة لا تتناول الإجابة عن أن زیداً بالذات هو مالک اللحم، وفی کلتا الحالین لا یعنی القدح فی أی من الأمارتین فهما ثابتتان ومثبتتان لمدلولیهما ولوازمهما.

ص: 26

إذن فالأمارتان مختلفتان مفهوماً وتطبیقاً، فما ذکر من الإشکال غیر تام، وعلی أساس هذه التفرقة یتبین مسار الأدلة المتقدمة ومدی دلالتها، فالأمر بعدُ لا یستحق تطویلاً أکثر من هذا، کما لا داعی للبحث فی أن أمارة سوق المسلمین هل هی أمارة علی کون الید أمارةً أو لا؟ کما حاول البعض ذلک إذ لا موضوع له بعد هذه التفرقة الواضحة لموردی کل من الأمارتین.

*** البعد الثانی والثالث: فی طهارة ما شک فی نجاسته وتذکیة ما احتمل عدم التذکیة فیه، وقد سبق من الأخبار ما یصرح بهذین البعدین من المشروعیة التی تثبتها سوق المسلمین، ویمکن أن یزاد هنا لإثبات تذکیة وطهارة ما یباع فی السوق ما رواه:

1_ فضیل وزرارة ومحمد بن مسلم، أنهم سألوا أبا جعفر(علیه السلام) عن شراء اللحوم من الأسواق ولا یدری ما صنع القصابون؟ فقال(علیه السلام) کل إذا کان ذلک فی سوق المسلمین، ولا تسأل عنه((1)).

2_ أحمد بن محمد بن أبی نصر قال: سألته عن الرجل یأتی السوق فیشتری جبة فراء لا یدری أذکیة هی أم غیر ذکیة أیصلی فیها؟ قال: نعم، لیس علیکم

ص: 27


1- وسائل الشیعة 16: باب 29 من أبواب الذبائح ح1.

المسألة، إن أبا جعفر(علیه السلام) کان یقول: إن الخوارج ضیقوا علی أنفسهم بجهالتهم، إن الدین أوسع من ذلک((1)).

ورواه الصدوق1 فی الفقیه بسنده عن سلیمان بن جعفر الجعفری عن العبد الصالح موسی بن جعفر(علیه السلام)((2)).

3_ أحمد بن محمد، عن أحمد بن محمد بن أبی نصر عن الرضا(علیه السلام) قال: سألته عن الخفاف یأتی السوق فیشتری الخف لا یدری أذکی هو أم لا، ما تقول فی الصلاة فیه وهو لا یدری أیصلی فیه؟ قال: نعم أنا أشتری الخف من السوق ویصنع لی وأصلی فیه، ولیس علیکم المسألة((3)).

4_ ما رواه علی بن جعفر عن أخیه موسی(علیه السلام) فی حدیث قال: سألته عن رجل اشتری ثوباً من السوق للبس لا یدری لمن کان هل تصلح الصلاة فیه؟ قال: إن اشتراه من مسلم فلیصل فیه، وإن اشتراه من نصرانی فلا یصل فیه حتی یغسله((4)).

ونحوها روایات أخری، وهی بصریح الأمر بالصلاة فیها ونحوه تدل کذلک علی طهارتها؛ إذ لا تجوز الصلاة فی النجس.

***

ص: 28


1- وسائل ب (50) من أبواب النجاسات ح3.
2- من لا یحضره الفقیه 1: 257 ب (39) ما یصلی فیه وما لا یصلی فیه من الثیاب ح791
3- وسائل الشیعة 3: 492 ب (50) من أبواب النجاسات ح6.
4- وسائل الشیعة 3: 490 ب (50) من أبواب النجاسات ح1.

تعقیب من المجدی والحدیث فی سوق المسلمین قد وصل إلی هذه المرحلة أن نعقب بمسائل أربع مهمة لها مساس بموضوع هذه السوق، ولا ینبغی الغض عنها:

*** المسألة الأولی: أشار البعض إلی اختلاف بین موضوعی الحلیة والطهارة فی الحیوان المذبوح إذ اعتبر أن موضوع الطهارة أوسع من موضوع الحلیة، فلتحقق الحلیة لا بد من إحراز التذکیة بشرائطها المتحققة ولو بأمارة سوق المسلمین، أو حمل استعمال المسلم علی الصحة، ومع الشک من دون تحقق واحدة من الأمارات علیها لا یثبت عنوان التذکیة ولا یصح استعماله فیما یتوقف علی التذکیة.

أما موضوع الطهارة فلم یؤخذ فیه إلا أن لا یحرز أنه میتة، والمیتة عنوان وجودی لا بد لتحققه من شرائط معینة، فما لم یحرز أنه میتة یجری علیه الحکم بالطهارة، والفرق یتضح فی مورد الشک فی التذکیة فإن أصالة عدم التذکیة تمنع من الالتزام بالتذکیة فیها؛ إذ هی أمر وجودی اشترط فیه فری الأوداج بنحو معین وکیفیة خاصة من التسمیة والاستقبال وغیرهما، وما لم یعلم بتحقق هذه الشرائط لا یحکم بالتذکیة.

إلا أن أصالة عدم التذکیة لا تحقق عنوان المیتة التی هی موضوع النجاسة، ومن ثم لا یحکم علی ما شک فی تذکیته من الحیوان بأنه نجس بل تبقی أصالة

ص: 29

الطهارة ثابتة فیه للاستصحاب، ولا مانع من إجراء مثل هذا الاستصحاب؛ لأن المانع یتصور بواحد من أمرین:

1_ احتمال تبدل موضوع الاستصحاب بعد القیام بعملیة إزهاق الروح بالنحو الذی لم یحرز أنه تذکیة؛ لأن الموضوع هو الحیوان الحی الذی أخذ فیه العنوانان معاً بنحو وحدة المطلوب أی أن الوصف والموصوف شیء واحد، ومع تخلف الحیاة بهذا النحو المشکوک جمعه للشرائط المعتبرة فی التذکیة یقطع بارتفاع الموضوع؛ لانتفاء المرکب بانتفاء بعض أجزائه، فلا یمکن حینئذ إجراء الاستصحاب لأن شرطه هو بقاء الموضوع.

ولکن هذا الاحتمال غیر وارد إذ لا دلیل علی اعتبار موضوع الاستصحاب بهذا النحو، وإلا لم یمکن القول ببقاء الطهارة حینما تنتفی الحیاة من الحیوان مطلقاً وإن کان بالتذکیة، ومن المعلوم بطلان هذا اللازم، بل موضوع الطهارة هو ذات الحیوان الخارجی دون حاجة إلی اتصافه بالحیاة أو غیر الحیاة، فهو محکوم بهذه الطهارة ما لم یعلم طروَّ عنوان المیتة التی هی موضوع النجاسة.

2_ احتمال تعارض استصحاب الطهارة باستصحاب عدم التذکیة؛ لأنه قد یحرز به عنوان المیتة التی هی موضوع النجاسة.

ولکن سبق أن عرفنا أن المیتة عنوان وجودی لا بد من إحراز مقتضیاته أیضاً، وهو لا یساوق دائماً عدم التذکیة، إذن فیبقی الحکم بالطهارة ممکناً مع عنوان عدم التذکیة، ولا مانع من هذا.

ص: 30

إلا أن یقال _ کما لا یبعد_ إن: موضوع النجاسة والحرمة هو غیر المذکی وهو معنی المیتة کما یستفاد من بعض أخبار المسألة فلاحظ.

*** المسألة الثانیة: ما یعرض من السلع فی الأسواق، ولا سیما مع تقدم المدنیة وسهولة النقل وتطور وسائط الحفظ لفترات أطول، وعدم الالتزام من قبل أکثر المورِّدین یمکن أن تلحظ فیه حالتان:

الحالة الأولی: أن سوق المسلمین هی المکان الأول الذی تطرح فیه هذه السلعة أو تلک، کما هو المشاهد فی السلع التی تصنع فی بلاد الإسلام، أو ما یذبح فی هذه البلاد من اللحوم والأسماک وغیرها، ویجمعها أن لا تکون مجلوبة من غیر بلاد الإسلام وأن أسواق المسلمین هی مبدأ مطرحها للاستهلاک.

الحالة الثانیة: أن تسبق سوق المسلمین سوق أو أسواق أخری تطرح فیها هذه السلع ومن تلک الأسواق تنقل إلی سوق المسلمین، کما یشاهد الآن فی الکثیر من المصنوعات والألبان واللحوم وسائر المعلبات وغیرها، والتساؤل الآن: هل أن مثل هذه الحالة مشمولة لأدلة سوق المسلمین المتقدمة أم لا؟ والذی یبدو أن مصب الروایات الواردة فی أمارة سوق المسلمین وعدم السؤال عما یؤخد منها هو الحالة الأولی لا الحالة الثانیة، ویری هذا واضحاً فی روایة فضیل وزرارة ومحمد بن مسلم المتقدمة وقول أبی جعفر(علیه السلام) فیها: (إذا کان

ص: 31

ذلک فی سوق المسلمین)، وکما سبق أن عهدنا من روایة محمد الأشعری المتقدمة، وأن اللام فیها للعهد الحضوری أی هذه السوق المعهودة لدی المسلمین.

وکما لاحظناه من روایة یونس التی حکت کره الإمام(علیه السلام) لتناول ما سوی الأنفحة مما یعمل فی آنیة المجوس وأهل الکتاب؛ لعدم توقیهم عن المیتة والخمر.

ویمکن الاستئناس لهذا الاختصاص بالحالة الأولی بما دل علی شرطیة اعتراف الرقیق نفسه بالرقیة لو عرضه الذمی فی السوق، وعدم کفایة العرض وحده فی تصحیح الشراء کما فی روایة:

عبد الرحمن بن أبی عبد الله قال: سألت أبا عبد الله(علیه السلام) عن رقیق أهل الذمة أشتری منهم شیئاً فقال: اشتر إذا اقرّوا لهم بالرق((1)).

ومثلها روایة إسماعیل بن الفضل عن أبی عبد الله(علیه السلام)((2)) وزکریا بن آدم عن الرضا(علیه السلام) ((3))، وغیرها.

وکذلک ما دل علی عدم جواز شهادة غیر المسلمین علی حیاة ما یخرج بأیدیهم من السمک الذی سبقت ید غیر المسلم عرضه فی سوق المسلمین للبیع علیهم.

ص: 32


1- وسائل الشیعة 18: 243 ب (1) من أبواب بیع الحیوان ح1.
2- وسائل الشیعة 18: 243 ب (1) من أبواب بیع الحیوان ح2.
3- وسائل الشیعة 18: 243 ب (2) من أبواب بیع الحیوان ح3.

وفی هذا المعنی روایات عدیدة منها:

ما رواه عیسی بن عبد الله قال: سألت أبا عبد الله(علیه السلام) عن صید المجوس فقال: لا بأس إذا أعطوکه حیا والسمک أیضاً وإلا فلا تجوز شهادتهم علیه إلا أن تشهده((1)).

وأما الحالة الثانیة حیث یعلم بسبق سوقٍِ علی سوقهم، ففیها صور:

1_ أن یتحمل المسلم العارف الملتزم مسؤولیة ما بیده ویضمن أن ما یبیعه مشروع الاستعمال، من أوجه معینة أو کافة الأوجه وهذه الحالة خارجة عن محل البحث؛ إذ الأمر یعود إلی موجبات الاطمئنان بمثل هذا الضمان الشخصی الذی تحکمه قواعد أخری لیست من مجالنا الآن.

2_ أن لا یتعهد البائع المسلم بمشروعیة ما یبیعه _ کما هو الغالب فی الأسواق الموجودة _ فلا بد أن یلتفت إلی أن سوق المسلمین فرع السوق الأولی، وأن مصب القاعدة إنما هی تلک السوق التی سبق طرح السلعة فیها، فإن جرت فیها حُکِمَ بالصحة وإلا فلا کما لو علم بأنها غیر مسلمة.

3_ أن تسبق سوق قبل سوق المسلمین قطعاً، ولکن لا یعلم شیء عن تلک السوقِ وإمکانِ تطبیق القاعدة أو عدم إمکانه هناک، وفی هذه الحالة لا مجال للجزم بتطبیق أدلة سوق المسلمین فی السوق الفعلی؛ لاحتمال اختصاصها بالسوق التی لم یسبقها سوق أخری کما لا یمکن الجزم بعدم تطبیقها؛ لاحتمال أمامیة إطلاق أدلتها فالأمر مشکل.

ص: 33


1- وسائل الشیعة 23: 386 ب (34) من أبواب الصید ح1.

المسألة الثالثة: سبق أن أشرنا إلی أن أکثر الروایات المتقدمة إنما ورد فیها عنوان سوق المسلمین، إلا أن مما یجدر الانتباه إلیه أن هذا العنوان لیس هو بالذات موضوع الحکم بل هو للغلبة أخذ طریقاً لنسبة الحکم إلی الموضوع الذی هو کل بلاد الإسلام، فکل ما یباع ویُشتری بل وما یستعمل فی بلاد الإسلام محکوم بهذا الحکم، فلا اختصاص للسوق فی عدم السؤال والحلیة وغیرها من الآثار، فلو فرض أن لحماً وجد فی ید شخص لیس فی السوق شرع تملکه وتناوله وطهارته سواء أ کان مما یباع أم لم یکن.

ویمکن أن یؤید بروایات أخری منها:

1_ ما رواه النوفلی عن السکونی عن أبی عبد الله(علیه السلام): أن أمیر المؤمنین(علیه السلام) سئل عن سفرة وجدت فی الطرق مطروحة کثیر لحمها وخبزها وجبنها وبیضها وفیها سکین فقال أمیر المؤمنین(علیه السلام) یقوم ما فیها ثم یؤکل لأنه یفسد ولیس له بقاء، فإذا جاء طالبها غرموا له الثمن، قیل له: یا أمیر المؤمنین لا یُدری سفرة مسلم أو سفرة مجوسی، فقال: هم فی سعة حتی یعلموا((1)).

وقد وردت هذه الروایة بطریق کل من الشیخ الکلینی والشیخ الطوسی والبرقی إلا أن هذه الطرق کلها تنتهی إلی النوفلی عن السکونی((2))، وهما ممن لم تثبت وثاقته وإن نقلت دعوی عمل الطائفة بروایات السکونی، وذهب سیدنا

ص: 34


1- وسائل الشیعة 3: 493 ب (50) من أبواب النجاسات ح11.
2- وردت بسندٍ آخر عن الجعفریات، ینظر: مستدرک الوسائل:2/588.

الأستاذ(دام ظله) إلی توثیقه لوجوده فی إسناد کتاب کامل الزیارات((1))، إلا أننا لا نری صحة هذه القاعدة.

والروایة وإن لم تعین بلاد الإسلام إلا أن هذا یعلم من شاهد الحال فیها.

2_ ما رواه إسحاق بن عمار عن العبد الصالح(علیه السلام) أنه قال: لا بأس بالصلاة فی الفراء الیمانی وفیما صنع فی أرض الإسلام، قلت: فإن کان فیها غیر أهل الإسلام؟ قال: إذا کان الغالب علیها المسلمین فلا بأس((2)).

کما یمکن الاستئناس فی هذا العموم لغیر الأسواق بما رواه علی بن جعفر عن أخیه موسی(علیه السلام) قال: سألته عن المسلم العارف یدخل فی بیت أخیه فیسقیه النبیذ أو الشراب لا یعرفه، هل یصلح له شربه من غیر أن یسأله عنه؟ فقال: إذا کان مسلماً عارفاً فاشرب ما أتاک به إلا أن تنکره((3))، وروایات أخری تفید هذا المعنی.

***

ص: 35


1- وقد عدل عن ذلک واقتصر علی توثیق من یرویه ابن قولویه عنهم من دون واسطة.
2- وسائل الشیعة 4: 456 ب (55) من أبواب لباس المصلی ح3.
3- وسائل الشیعة: 17/233، باب 6 من أبواب ح 1.

المسألة الرابعة: سبق أن کررنا أن قاعدة سوق المسلمین أمارة شرعیة مجعولة من قبل الشارع، أو بالأحری أمارة عقلائیة أیدها الشرع بضوابط معینة کطریق لتحصیل الواقع؛ ولهذا فإنها مما یثبت لها کافة أحکام الأمارات الشرعیة المجعولة من طریقیتها إلی الواقع، وتقدمها علی الأصول کافة؛ لأن مدلولها کشف تعبدی یرتفع به موضوع الأصل العملی وهو الشک سواء أکان هذا الأصل تنزیلیاً أم غیره، کما أنها تثبت لوازم مدلولها، و سائر الأحکام الأخری التی جعلت للأمارات.

وینبغی أن یعلم أن أمارة سوق المسلمین کأمارة الید تتقدم علیها الأمارات الأخری التی یعتمد علیها فی مقام القضاء کالبینة والاعتراف؛ لأن مفاد أدلتها الاستناد إلیها حیث لا أمارة، فحالها حال الأصول المحرزة من هذه الجهة وإن کانت مقدمة علی سائر الأصول العملیة.

والحمد لله رب العالمین والصلاة والسلام علی خیر خلقه محمد وآله الطیبین الطاهرین ***

ص: 36

الرّبا

مقدمة من البدیهیات المعروفة فی الإسلام حرمة الربا، وقد وردت النصوص الإسلامیة المتواترة فی هذا التحریم والتشدید علیه منذ الأیام الأولی للتشریع فی کل من القرآن الکریم والسنة الطاهرة، فمن کتاب الله قوله تعالی:

1_[الَّذِینَ یَأْکُلُونَ الرِّبَا لاَ یَقُومُونَ إِلاَّ کَمَا یَقُومُ الَّذِی یَتَخَبَّطُهُ الشَّیْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِکَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَیْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَیَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَی اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَ_ئِکَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِیهَا خَالِدُونَ]((1)).

2_ [یَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَیُرْبِی الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ یُحِبُّ کُلَّ کَفَّارٍ أَثِیمٍ]((2)).

3_ [یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِیَ مِنَ الرِّبَا إِن کُنتُم مُّؤْمِنِینَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَکُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِکُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ]((3)).

ص: 37


1- سورة البقرة/275.
2- سورة البقرة/276.
3- سورة البقرة/278_279.

4_ [یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُواْ لاَ تَأْکُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّکُمْ تُفْلِحُونَ * وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِی أُعِدَّتْ لِلْکَافِرِینَ ]((1)).

ومن السنة الطاهرة ما رواه:

1_ هشام بن سالم عن أبی عبد الله(علیه السلام) قال: درهم ربا عند الله أشد من سبعین زنیة کلها بذات محرم((2)).

2_ زرارة عن أبی عبد الله(علیه السلام)، قال: قلت له: إنی سمعت الله یقول: [یَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَیُرْبِی الصَّدَقَاتِ]((3)) وقد أری من یأکل الربا یربو ماله؟ فقال: أی محق أمحق من درهم ربا؟! یمحق الدین، وإن تاب منه ذهب ماله وافتقر((4)).

3_ أنس بن محمد عن أبیه عن جعفر بن محمد عن آبائه(علیه السلام) عن النبی(صلی الله علیه و آله) فی وصیته لعلی(علیه السلام)، قال: یا علی، الربا سبعون جزءاً فأیسرها مثل أن ینکح الرجل أمه فی بیت الله الحرام، یا علی درهم ربا أعظم عند الله من سبعین زنیة کلها بذات محرم فی بیت الله((5)).

4_ الصدوق بسنده عن النبی(صلی الله علیه و آله) _ فی حدیث _، قال: ومن أکل الربا ملأ الله بطنه من نار جهنم بقدر ما أکل، وإن اکتسب منه مالاً لم یقبل الله منه شیئاً مِن عمله، ولم یزل فی لعنة الله والملائکة ما کان عنده منه قیراط واحد((6)).

ص: 38


1- سورة آل عمران/130_131.
2- وسائل الشیعة 18: 117 ب (1) من أبواب الربا ح1.
3- سورة البقرة/276.
4- وسائل الشیعة 18: 119 ب (1) من أبواب الربا ح7.
5- وسائل الشیعة 18: 120 ب (1) من أبواب الربا ح12.
6- وسائل الشیعة 18: 122 ب (1) من أبواب الربا ح15.

5_ الطبرسی عن علی(علیه السلام) قال: إذا أراد الله بقریة هلاکاً ظهر فیهم الربا((1))، وقریب منه روی عن الصادق(علیه السلام)((2)).

6_ الحسین بن زید عن الصادق جعفر بن محمد عن آبائه(علیه السلام) فی مناهی النبی(صلی الله علیه و آله) أنه نهی عن أکل الربا وشهادة الزور وکتابة الربا وقال: (إن الله لعن آکل الربا ومؤکله وکاتبه وشاهدیه)((3)).

وبعدُ، فإن حرمة الربا فی الجملة من الضرورات البدیهیة من التشریع الإسلامی _ کما قلنا_ ولهذا فلو قیل بکفر کل منکر للضروری لأمکن القول بکفر مستحل الربا وإباحة دمه، ولعل هذا ما یشیر إلیه الإمام الصادق(علیه السلام) فیما یرویه عنه:

ابن بکیر قال: بلغ أبا عبد الله(علیه السلام) عن رجل أنه کان یأکل الربا ویسمیه اللبا فقال(علیه السلام): لئن أمکننی الله منه لأضربن عنقه((4)).

2_ وما یرویه محمد بن سنان عن الرضا(علیه السلام) فی حدیث: وعلة تحریم الربا بعد البینة لما فیه من الاستخفاف بالحرام المحرم وهی کبیرة بعد البیانِ وتحریمِ الله(عزوجل) لها، لم یکن إلاّ استخفافاً منه بالمحرم الحرام، والاستخفاف بذلک دخول بالکفر((5)).

ص: 39


1- مجمع البیان 2: 208 تفسیر سورة البقرة آیة 270.
2- ([4] بلفظ: إذا أراد الله بقوم هلاکاً ظهر فیهم الربا، وسائل الشیعة 18: 123 ب (1) من أبواب الربا ح17.
3- الوسائل 18 127 ب (4) من أبواب الربا ح3.
4- وسائل الشیعة 18: 125 ب(2) من أبواب الربا ح1.
5- وسائل الشیعة 8: 121 ب (11) من أبواب الربا ح11.

وعلیه فما ینبغی الحدیث فیه لیس ثبوت أصل الحکم بل المورد الذی یصدق علیه الربا المحرم؛ لأنه مجال للأخذ والرد بین الفقهاء، وهم قسموا الربا من هذه الناحیة إلی ما یقع فی المعاوضات وما یقع فی القرض، وینبغی الوقوف عند کل من القسمین لتأمل أقوالهم فیه ومدارک هذه الأقوال: فالکلام یقع فی فصلین:

***

ص: 40

الفصل الأول فی ربا المعاوضة

الفصل الأول: فی ربا المعاوضة

فی بدایة الحدیث عن ربا المعاوضة ینبغی الالتفات إلی سؤال مبدئی مهم وهو:

هل أن ربا المعاوضة یشمل کافة أصناف المعاوضات أو یختص بالبیع فقط؟ ویجدر الإلفات هنا إلی أن جمیع من قال بالشمول لکافة المعاوضات لم یعنِ الزیادة فی المنافع والأعمال بل خصوص الأعیان؛ ولهذا ینبغی الالتفات إلی ما فی بعض الرسائل العملیة من التسامح فی التعبیر کما فی منهاجی کل من السید الحکیم1 وسیدنا الأعظم(دام ظله)؛ إذ قالا:

(الربا قسمان: الأول ما یکون فی المعاملة والثانی ما یکون فی القرض)، والمسامحة فی التعبیر واضحة فی أمرین:

الأول: فی جعل القرض قسیماً للمعاملة مع أنه معاملة ولا معنی لأن یُجعل قسیماً لها إلا إذا اعتبرت المعاملة هنا حاکیة عن المعاوضة.

ص: 41

الثانی: فی التعبیر بالمعاملة والمعاوضة بإطلاقها مع أن المراد خصوص ما یجری منها علی الأعیان، إذ إن کلاً من السید الحکیم1 وسیدنا الأستاذ(دام ظله) لم یریدا شمول الحکم للزیادة فی غیر ما یجری فی الأعیان من المعاوضات؛ ولهذا فإن سیدنا الأعظم(دام ظله) فی المنهاج تبعاً للسید الحکیم1 صرح بقوله: (أما إذا لم تکن المعاوضة بین العینین کأن یقول: صالحتک علی أن تهب لی تلک العشرة وأهب لک هذه الخمسة، أو یقول أبرأتک عن الخمسة التی لی علیک بشرط أن تبرئنی عن العشرة التی لک علی ونحوها فالظاهر الصحة)((1)).

وعلی أی حال فالإجابة عن السؤال المتقدم برزت فی قولین:

الأول: القول بشمول الربا لکافة المعاوضات الجاریة بین الأعیان سواء کانت بیعاً أم غیره، ونسب هذا القول إلی المشهور من القدماء والمتأخرین.

الثانی: القول باختصاص الربا المحرم فی البیع فقط، ونسب هذا إلی صاحب السرائر1 والمحقق1 والعلامة1 فی بعض کتبه.

*** واحتج من قال بشمول حرمة الزیادة فی کافة المعاوضات بعدة أدلة منها:

1_ صدق الربا علی کل معاوضة یزید فیها أحد العوضین علی الآخر، وهذا معروف فی الظاهر من إطلاق اللفظ، فما دل علی حرمة الربا فی کافة الآیات

ص: 42


1- منهاج الصالحین للسید الخوئی2/ 52.

والروایات شامل بإطلاقه لما یجری فی کل معاوضة من الزیادة کما شاهدناه واضحاً فی الآیات والروایات السابقة.

ولمعرفة ما فی هذا الدلیل ینبغی الرجوع إلی ما سبق فی المقدمة من الآیات والروایات والتأمل فیها لیعرف مبلغ ما تشیر إلیه بهذا الصدد.

فالآیة الأولی لابد أن یکون الإطلاق فیها مرتبطاً بالإطلاق الوارد فیما قبلها؛ لأن قوله تعالی: [وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ]((1)) هو من مقولة الکفار ولیس من المقولة الإلهیة فی التشریع وإن أصر المشهور من الفقهاء علی حکایتها لأصل التشریع، واعتبار هذه الفقرة من أدلة الحکم الإلهی الشرعی؛ ولهذا أفاضوا فی الاستناد إلی معطیاتها فی بعض موارد الفقه فی أنحاء شتی من المعاملات، ولکنک خبیر بأن السیاق لا یساعده.

ومع التنزل فإن الآیة جعلت الربا مقابل البیع المحلل، وهذا بإطلاقه ینتهی إما إلی تحلیل الزیادة وإن کانت فی البیع مطلقاً أی حتی ما یجری فی المتجانسین، وإما إلی تحریم الزیادة حتی فی البیع فی غیر المتجانسین، إذ فی مورد الالتقاء لا بد من تقیید أحد الإطلاقین بالآخر ونتیجة التقیید _ لو خلینا نحن ومدلول الآیة _ هذا الذی ذکرناه، وهو ما لم یقل به أحد ولا یعقل أن یقول به أحد.

نعم صدر الآیة یمکن الاستدلال به؛ إذ قوله تعالی: [الَّذِینَ یَأْکُلُونَ الرِّبَا.. الآیة]((2))، یمکن أن یدّعی الإطلاق فیه ویستدل به علی المقصود، ولکن هذا أیضاً غیر تام؛ إذ یرد علیه:

ص: 43


1- سورة البقرة/275.
2- البقرة: 275.

أولاً: أن الآیة الکریمة إنما وردت لبیان أصل التشریع، ولا یسلم وجود إطلاق فی هذه المرحلة؛ إذ الإطلاق إنما یتم مع إحراز مقدماته الأربع المعروفة وأولها أن یکون المتکلم فی مقام البیان، والبیان هنا منصبّ علی أصل تشریع الحکم ولیس علی خصوصیات المتعلق، فلم تتم هذه المقدمة الأولی والأهم.

ثانیاً: مع تسلیم وجود مثل هذا الإطلاق فی موضوع الربا فإنه بمعناه اللغوی یشمل کافة موارد الزیادة، وهذا غیر ممکن قطعاً؛ إذ من موارد الزیادة ما یکون فی المعاوضة الرابحة فی غیر المتجانسین أیضاً، وغیر معقول _ کما عرفت _ أن یذهب أحد إلی تحریم مثل هذه الزیادة فی أحد العوضین ما لم تتوفر فیها الشرائط المذکورة فی النصوص.

إذن فالأمر هنا یستوجب الرجوع إلی أدلة التحدید الأخری لمفهوم الممنوع من هذه الزیادة، ومن دونها یصبح الأمر مجملاً ولیس مطلقاً کما یتصور المستدل، وسیأتی إن شاء الله أن الأدلة حدَّدت منع الزیادة فی خصوص معاوضة البیع وفی المکیل والموزون فقط من الأعیان، لا کل المعاوضات ولا کل الأعیان.

وبمثل هذه الملاحظة تماماً یمکن القول فی قوله تعالی: [یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُواْ لاَ تَأْکُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً]((1))؛ إذ البیان أیضاً منصب علی أصل تشریع الحرمة، فلا إطلاق فیها لیدّعی شمولها لکافة المعاوضات، وتسلیم الإطلاق فیها ینتهی إلی الإجمال تماماً _ کما بینا _، فلا بد من أدلة أخری تعین الزیادة المحرمة.

ص: 44


1- آل عمران: 130.

أما قوله تعالی: [یَمْحَقُ الله الْرِّبَا وَیُرْبِی الصَّدَقَاتِ]((1)) فالإنصاف أن فی الاستدلال به علی الشمول من الوهن ما هو أکثر؛ فکل ما فی الأمر أن الآیة بصدد عرض الأثر الوضعی للربا المحرم، فلا إطلاق یتصور فیها للموضوع، بل لولا العلم القطعی بحرمة الربا من أدلته الأخری لأشکل القول بدلالتها علی حرمة الربا، لأن الأثر الوضعی السییء لشیء لا یلازم تحریمه دائماً، کما أن الأثر الوضعی الحسن لا یلازم الوجوب دائماً؛ ولهذا فإننا نری فی الکثیر من النصوص آثاراً سیئة لبعض المکروهات ما یفوق ما ذکر لبعض المحرمات،کما ذکر لبعض المندوبات آثار فاقت فی حسنها ما ذکر لبعض الواجبات، وهذا واضح لمن یتعامل مع النصوص، إذن فلا إطلاق فی الاستعمال هنا.

ومع التنزل واعتبار أن محق الربا یعنی محوه الشرعی، وعدم ترتیب الأثر علی المعاوضة الربویة وهذا یعنی الحرمة أو یلازمها، إلا أن هذا لا یستوجب القول بتحریم کل زیادة وإن لم تکن فی البیع من المعاوضات أو فی غیر المتجانسین من العوضین من المکیل والموزون؛ إذ النصوص الأخری لا بد من ملاحظتها لاستکمال الصورة، وهذا یعنی افتقار الآیة إلی غیرها من الأدلة الموضحة لما فیها من إجمال.

والکلام نفسه جارٍ فی الاستدلال بقوله تعالی: [یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُواْ اتَّقُواْ الله وَذَرُواْ مَا بَقِیَ مِنَ الرِّبَا]((2))، فأقصی ما تدل علیه الکلمة هنا لزوم ترک ما یبقی لدی الإنسان من الربا المحرم ولکن أی زیادة هذه؟ واضح أن الآیة لم تتعرض لبیان هذه الزیادة، بل لا نظر فی الآیة إلی ما یأکله المرابی قبل توبته من الربا فکیف یتصور فیها الإطلاق المقصود؟!

ص: 45


1- البقرة: 276.
2- البقرة: 278.

إذن فلم یتم الاستدلال بواحدة من الآیات علی شمول الحرمة لکل زیادة فی أی معاوضة.

والاستدلال بالروایات المتقدمة أیضاً لا یعدو الاستدلال بالآیات، فهی فی جمیعها لا تعدو مصباً واحداً هو تحریم الربا وتشدید النکیر علیه والآثار الوضعیة لتناول شیء منه، وهذه النواحی لا علاقة لها ببیان ذات الربا بالإطلاق فیه مع انتفاء التقیید، فالروایات کالآیات مفتقرة فی هذه الناحیة إلی ما یحدد الموضوع فیها.

وهذه الناحیة من هذه الروایات تشبه ما ورد فی روایة علی بن عقبة عن أبیه عن أبی عبد الله(علیه السلام) قال: سمعته یقول: النظرة سهم من سهام إبلیس مسموم، وکم من نظرة أورثت حسرة طویلة.

فإن هذا المنطوق الذی یشدد علی النظرة المحرمة لا بد له من دلیل آخر یبین ماهیة هذه النظرة التی لها مثل هذه الأثر السیّئ، وإلا فلیس کل نظرة سهماً من سهام الشیطان.

إذن فهذه الطائفة من الآیات والروایات کافة لا دلالة فیها علی شمول الربا المحرم لکل معاوضة؛ إذ لم یتم فیها الرکن الأول للإطلاق.

2_ ومما یستدل به علی شمول الربا لکافة المعاوضات ما دل علی حکمة التحریم من أدلة؛ فإن عموم الحکمة یدل علی عموم التحریم، وهذه الطائفة کثیرة جداً ولئن کان بعضها غیر معتبر سنداً إلا أن منها ما هو صحیح کذلک، ویکفینا هنا منها ما رواه:

ص: 46

1_ هشام بن سالم عن أبی عبد الله(علیه السلام) قال: إنما حرم الله(عزوجل) الربا لکیلا یمتنع الناس من اصطناع المعروف((1)).

2_ هشام بن الحکم أنه سأل أبا عبد الله(علیه السلام) عن علة تحریم الربا فقال: إنه لو کان الربا حلالاً لترک الناس التجارات وما یحتاجون إلیه، فحرم الله الربا لتنفر الناس من الحرام إلی الحلال وإلی التجارات من البیع والشراء، فیبقی ذلک بینهم فی القرض((2)).

3_ زرارة عن أبی جعفر(علیه السلام) قال: إنما حرم الله(عزوجل) الربا لئلا یذهب المعروف((3)).

وهکذا غیرها من الروایات التی تؤکد مثل هذه الحِکَم لتحریم الربا فلا تختص الحِکَم بالبیع فقط بل تشمل المعاوضات کافة، فالتحریم حینئذ یجری فیها کذلک.

والإنصاف أن هذه الطائفة من الروایات أضعف من سابقتها فی الدلالة علی المقصود فهی مع أنها _ کما یقول المستدل نفسه _ تدل علی بیان الحکمة، والحکمة لا تبلغ مبلغ العلة التامة التی یدور الحکم مدارها وجوداً وعدماً لیقال بشمول الحرمة فی کل مورد تتواجد فیه.

ومع فرض کونها علة لا یسع الالتزام بمغزاها؛ إذ إن کثیراً من موارد الزیادة مجری للمعاوضات المباحة کالبیع، مع تأتی جریان تلک العلة أو الحکمة کقوله:

ص: 47


1- وسائل الشیعة 18: 118 ب (1) من أبواب الربا ح4.
2- وسائل الشیعة 18: 120 ب (1) من أبواب الربا ح8.
3- وسائل الشیعة 18: 120 ب (1) من أبواب الربا ح10.

«لئلا یمتنع الناس من اصطناع المعروف»؛ إذ لا مانع من کون البیع عملاً معروفاً مع أخذ الزیادة؛ لأن الموضوع یختلف حسناً وقبحاً باختلاف الجهة، وعلیه کیف یتصور شمول الحرمة فی هذه الروایات لجمیع المعاوضات الجاریة فی الأعیان؟!.

3_ مما استدل به علی الشمول کذلک: ما دل علی حرمة المعاوضة بین المتجانسین مع زیادة أحد العوضین، دون تعیین هذه المعاوضة فی خصوص البیع، وهذه الطائفة کثیرة فمنها ما رواه:

1_ أبو بصیر وغیره عن أبی عبد الله(علیه السلام) قال: الحنطة والشعیر رأساً برأس لا یزاد واحد منهما علی الآخر((1)).

2_ الحلبی عن أبی عبد الله(علیه السلام) فی حدیث قال: ولا یصلح الشعیر بالحنطة إلا واحداً بواحد((2)).

3_ محمد بن مسلم عن أبی جعفر(علیه السلام) قال: قلت له: ما تقول فی البر بالسویق؟ فقال: مثلاً بمثل لا بأس، قلت: إنه یکون له ریع((3)) أنه یکون له فضل؟ فقال: ألیس له مؤنة؟ فقلت بلی قال: هذا بهذا، وقال: إذا اختلف الشیئان فلا بأس مثلین بمثل یداً بید((4)).

ومع أن هذه الطائفة من الروایات هی الأهم فی الاستدلال إلا أنها کذلک غیر ناهضة بالدلالة علی المقصود لأمرین:

ص: 48


1- وسائل الشیعة 18: 138 ب (8) من أبواب الربا ح3.
2- وسائل الشیعة 18: 139 ب (8) من أبواب الربا ح5.
3- فی نسخة زیادة: أو، وفی أخری: أی. (هامش المخطوط).
4- وسائل الشیعة 18: 140 ب (9) من أبواب الربا ح1.

أولاً: لأن مصب البیان فیها إما اعتبار أصل المجانسة مع التفاضل فی العوضین لتحقق الربا المحرم، أو أن التساوی لا بد منه فی تجانس العوضین لتصحیح عملیة المعاوضة، أو اعتبار أن الحنطة والشعیر کلیهما جنس واحد، ولیس لواحدة من هذه النواحی أدنی قرب من نوع المعاوضة التی وقعت بها المعاملة الربویة لیقال: إن فی الاستعمال إطلاقاً، وما لم یکن الکلام فی مقام البیان لا تتم فیه أولی مقدمات الحکمة وهی الأساس للقول بالإطلاق مع انتفاء القید.

وثانیاً: لأن الملاحظ فی روایات هذه الطائفة جمیعها التصریح بباء البدلیة فی العوضین (رأساً برأس، الحنطة بالشعیر، البر بالسویق)، وهذا یعنی ورودها فی المعاملات التی تتقوم بمفهوم المعاوضة فی الأعیان لا المعاملات التی یکون التعاوض فیها شرطا أو لاحقاً للعقد.

والذی ینظر فی المعاملات الجاریة فی العروض لا یری غیر البیع وما یلحق به من الفسخ والإقالة تعتبر فیه المعاوضة مقومة لذات المعاملة وأما الصلح والهبة المعوضة فلم تؤخذ فیهما المعاوضة رکناً مقوماً لذات المعاملة.

فمعنی المعاوضة _ کما أشار إلیه العلامة1 فی بعض کتبه والشیخ الأعظم1 فی مکاسبه واخترناه فی بابه _ أن إنشاء کل من الإیجاب والقبول یقتضی حلول کل من العوضین محل الآخر فی الملکیة، وهذا یعنی أن البائع حین ینشئ البیع فی قوله (بعت) ینشئ فی الحقیقة تملیکه المبیع للمشتری فی الوقت الذی ینشئ فیه تملکه للثمن، وهکذا الأمر بالنسبة للمشتری فإنه بإنشائه القبول ینشئ الملکیتین، ولیس کما قاله البعض من أن إنشاء البائع یعنی تملیکه المبیع للمشتری بینما یعنی

ص: 49

قبول المشتری تملیکه الثمن للبائع بل کل منهما یقصد الملکیتین معاً، ولهذا فمع اختلال شرائط عوضی المعاملة أو بعضها تبطل المعاملة من أساسها لأنهما رکنان فیها.

ومثل هذا الارتباط لا یقال فی الصلح أو الهبة المعوضة؛ إذ إن حقیقة الصلح تتقوم برفع المنازعة إما فعلاً أو حیث یحتمل وقوعها، وکون هذا الرفع یقتضی بذل کلٍّ من طرفی المعاملة أو غیرهما ما یتحاشی به الوقوع فی النزاع إلا أن هذا البذل والمعاوضة فیه لم یقصدا أساساً فیها، ولهذا قلنا فی مباحث الصلح: إنه لا دلیل علی نفوذ الصلح ابتداء حیث لا تقع منازعة أو ما یکون منشأ لها، فحین یمر شخص علی بائع توفرت فی بضاعته شرائط البیع ویملک هو من المال ما تتوفر فیه شرائط الثمن وکانا معاً ممن توفرت فیهما شرائط المتعاقدین المتبایعین إلا أنهما یعزبان عن البیع إلی الصلح فی المعاملة دون سبب، فلا دلیل علی صحة هذه المعاملة کصلح.

وکذلک الهبة المعوضة فإن العوض إنما یؤخذ فی عقدها کشرط ولیس رکناً، فالموجب یقول: وهبتک هذا القلم بشرط أن تهبنی ذلک الکتاب، ولهذا فإن ملکیة الموهوب له تتحقق بمجرد قوله بالهبة واستلامه للموهوب، أما ملکیة الواهب للعوض المشروط فلا تتحقق إلا بعد أن یهبه إیاه الموهوب له المشروط علیه، بخلاف البیع فإن الملکیتین معاً تتحققان فی العوضین فی الوقت نفسه الذی تتم فیه أرکان العقد _ کما بینا_.

ص: 50

وفرق آخر یتضح معه عدم اعتبار الهبة المعوضة معاوضةً هو: أنه مع إطلاق الشرط یصح للموجِب له أن یهب الواهب الأول نفس ما وهبه إیاه، فالواهب الأول یقول وهبتک هذا القلم علی أن تهب لی أنت قلماً أیضاً، فإن القابل یمکنه أن یهب ذات القلم لمن کان الشرط له ولا یکون الأمر من باب اتحاد العوض والمعوض الممنوع فی البیع.

إذن فکل من الهبة والصلح لا یتحقق فیهما مفهوم المعاوضة کمقوم لذات المعاملة، وأما الفسخ والإقالة فهما یلحقان بالبیع فیجری فیهما جل شرائطه وأحکامه ومنها الربا.

إذن فالطائفة الثالثة کسابقتیها لا تصلح دلیلاً علی شمول المعاوضات فی حرمة الربا، فالصحیح اختصاص الحرمة بالبیع فقط حیث به وحده تتم شروط ربا المعاوضة مع اتحاد الجنس والتفاضل بین العوضین.

ص: 51

ص: 52

شرائط الربا فی البیع

لتحقیق الربا المحرم فی البیع شرطان مشهوران ذکرتهما کتب الفقه وأدلته وهما:

1_ وحدة الجنس فی العوضین، فلا ربا فی مختلفی الجنسین.

2_ کونهما من المکیل والموزون، فلا ربا فی المعدود والجزاف، ولا بد من الوقوف عند کل من الشرطین لملاحظة أبعادهما وبعض ملابساتها.

***

الشرط الأول: وحدة الجنس فی العوضین.

سبق أن وضُح هذا الشرط فی ثنایا الحدیث المتقدم وضمن ما ذکر فی الروایات السابقة ولا سیما من مفهوم روایات الطائفة الثالثة من أدلة شمول الربا للمعاوضات، ویضاف إلی ذلک ما رواه:

ص: 53

1_ عبد الله بن سنان قال سمعت أبا عبد الله(علیه السلام) یقول: کان علی(علیه السلام) یکره أن یستبدل وسقاً من تمر خیبر بوسقین من تمر المدینة؛ لأن تمر خیبر أجودها((1)).

وبنفس المنطوق تقریباً وردت روایات عدیدة ذکرها صاحب الوسائل فی بابها((2)).

2_ سماعة قال: سألته عن الطعام والتمر والزبیب فقال: لا یصلح شیء منه اثنان بواحد، إلا أن یصرفه نوعاً إلی نوع آخر فإذا صرفته فلا بأس اثنین بواحد((3)).

وأما مع اختلاف الجنس فلا مانع من التفاضل کما هو صریح هذه الروایة وغیرها، ومنها ما سنذکره من روایة زرارة والحلبی إن شاء الله، وبعدُ فإن هذا الشرط فی الجملة مما لا یشک فیه أحد.

أما وحدة الجنس فلم یرد فی الروایات تعیین معنی شرعی خاص لها سوی ما ورد فی وحدة الحنطة والشعیر، ووحدة أصناف التمر، ففی الحنطة والشعیر _ مضافاً لما مر _ ما رواه:

1_ عبد الرحمن بن أبی عبد الله عن أبی عبد الله(علیه السلام) (فی حدیث) قال: إن الشعیر من الحنطة((4)).

ص: 54


1- وسائل الشیعة 18: 151 ب (15) من أبواب الربا ح2.
2- وسائل الشیعة 18: 151 ب (15) من أبواب الربا ح1، ح2، ح3، ح4.
3- وسائل الشیعة 18: 146 ب (13) من أبواب الربا ح5.
4- وسائل الشیعة 18: 138 ب (8) من أبواب الربا ح2.

2_ الحلبی عن أبی عبد الله(علیه السلام) قال: وسئل عن الرجل یشتری الحنطة فلا یجد صاحبها إلا شعیراً أیصلح له أن یأخذ اثنین بواحد؟ قال: لا، إنما أصلهما واحد، وکان علی(علیه السلام) یعدّ الشعیر بالحنطة((1)).

وفی التمر روایة عبد الله بن سنان المتقدمة، ومثلها أخبار مذکورة فی بابها.

فحیث إن الروایات ذکرت وحدة الصنف فی هذین البابین لابد أن نقول به ونلتزمه علی الرغم من التفاوت بین الحنطة والشعیر عرفاً وما بین أصناف التمر من الاختلاف الکبیر جودة ورداءة، أما فی غیرهما من الأصناف کافة فیرجع فیها إلی العرف فهو المحکّم فیها فحیث یحکم العرف بوحدة الجنس منع من التفاضل فیه إن کان مکیلاً أو موزوناً وإلا لم یحکم بالمنع.

وأما فی حالة الشک _ حیث لا تکون للعرف کلمة فاصلة فی التعریف _، فلیست هنا قاعدة عامة یرجع إلیها فی کافة الموارد کأصل عملی یعین الوظیفة الشرعیة سوی العمومات _ إن أمکن تطبیقها_ کقوله تعالی: [أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ]((2))، أو [وَأَحَلَّ الله الْبَیْعَ]((3))، وهذه تقتضی صحة المعاملة حیث لا یعلم صدق هذه الوحدة؛ لأنها شرط وجودی للحرمة والبطلان فی البیع الربوی فحیث لم یحرز تحققه لا یمکن الحکم بالبطلان والربویة.

ص: 55


1- وسائل الشیعة 18: 138 ب (8) من أبواب الربا ح4.
2- المائدة: 1.
3- البقرة: 275.

ویؤید الحکم بالصحة، ما عهد فی السیرة العملیة منذ عهد الرسول6 وحتی الآن من عدم التوقف عَن البیع والشراء فی مثل هذه الموارد المشکوکة، إذن فلا بد من الجزم بوحدة الجنس للحکم بالمعاملة الربویة.

*** أما موارد الشک التی کانت مجال أخذ ورد فالمعروف منها ثلاثة:

المورد الأول: أصناف اللحوم، فهل أن اللحم جنس واحد یشمل کافة أصنافه أو هو یختلف باختلاف الحیوان؟ قال بعض الفقهاء باختلاف جنس اللحم کل نوع بحسب الحیوان الذی یؤخذ منه، ولکن من الممکن أیضاً تصنیف الجنس بحسب الفروق السعریة والرغبة بین الأجناس، ویتوحد علی هذا الأساس لحم الضأن والمعز ذکوراً وإناثاً فی جنس واحد، بینما یصنف لحم البقر والجمال کذلک فی جنس آخر، وهکذا.

المورد الثانی: الأصول والفروع، وقد ذکر سیدنا الأستاذ(دام ظله) أن القاعدة تقتضی وحدة الفرع مع أصله فی الجنس، ولکننا لم نتعقل منشأً شرعیاً لهذه القاعدة، أو عقلیاً لا نقاش فیه، کما أن العرف الذی أنیطت به التفرقة ما بین الأجناس لا یری لهذه القاعدة وجوداً، فالعرف یری أن الجبن والحلیب جنسان مختلفان، والشمع والعسل، والسمک وزیته، کل منها جنس یختلف عن الآخر وإن

ص: 56

أخذ بعضها من بعض، إذن فهذه القاعدة التی ذکرها سیدنا الأستاذ(دام ظله) لم تثبت، والعرف _ کما سبق _ له کلمة الفصل فی المسألة عندهم.

المورد الثالث: ما إذا کان لماهیة واحدة فردان أحدهما رطب والآخر یابس کبیع الرطب بالتمر والعنب بالزبیب، وهذه المسألة مورد لأنظار الفقهاء واختلاف کلماتهم، وسبب الاختلاف هو اختلاف ما ورد فی هذا الباب من الروایات، فطائفة من الروایات تجیز مثل هذا البیع، بینما تدل الطائفة الأخری علی المنع، ومن هذه الطائفة ما رواه:

1_ الحلبی فی الصحیح عن أبی عبد الله(علیه السلام) قال: لا یصلح التمر الیابس بالرطب، من أجل أن التمر یابس والرطب رطب فإذا یبس نقص((1)).

2_ محمد بن قیس فی الصحیح عن أبی جعفر(علیه السلام) فی حدیث: أن أمیر المؤمنین(علیه السلام) کره أن یباع التمر بالرطب عاجلاً بمثل کیله إلی أجل، من أجل أن التمر ییبس فینقص من کیله((2)).

3_ داود بن سرحان عن أبی عبد الله(علیه السلام) قال: سمعته یقول: لا یصلح التمر بالرطب، إن الرطب رطب والتمر یابس فإذا یبس الرطب نقص((3)).

4_ داود الأبزاری عن أبی عبد الله(علیه السلام) قال سمعته یقول: لا یصلح التمر بالرطب، إن التمر یابس والرطب رطب((4)).

ص: 57


1- وسائل الشیعة 18: 148 ب (14) من أبواب الربا ح1.
2- وسائل الشیعة 18: 149 ب (14) من أبواب الربا ح2.
3- وسائل الشیعة 18: 150 ب (14) من أبواب الربا ح6.
4- وسائل الشیعة 18: 150 ب (14) من أبواب الربا ح7.

ومن الطائفة الأخری التی تجیز البیع ما رواه:

1_ سماعة فی الموثق قال: سئل أبو عبد الله(علیه السلام) عن العنب بالزبیب قال لا یصلح إلا مثلاً بمثل قال والتمر بالرطب مثلاً بمثل((1)).

2_ أبو الربیع قال: قلت لأبی عبد الله(علیه السلام): ما تری فی التمر والبسر الأحمر مثلاً بمثل قال: لا بأس قلت فالبختج والعنب مثلاً بمثل قال: لا بأس((2)).

والروایة محل خدشة لاشتراک أبی الربیع بین الثقة والمجهول إلا أن الروایة الأولی معتبرة بناء علی عدم اشتراط عدالة الراوی.

إذن فالتعارض واضح، وقد حاول البعض علاج هذا التعارض بالحکم بالجواز مع الکراهة حملاً منه للنهی الوارد فی الطائفة الأولی علی الکراهة التکلیفیة التعبدیة، ولکن لا شاهد لهذا الحمل سوی تصریح الروایة الثانیة بکراهة علی(علیه السلام) لمثل هذه المعاملة، إلا أن الکراهة فی مثل هذه الموارد إنما هی الکراهة النفسیة التی تساوق الحرمة والبطلان، لصریح بعض الروایات بأن علیاً لم یکن یکره الحلال، إذن فهو جمع تبرعی لا سند له، فالتعارض باق ولا بد من القول بتساقط الدلالتین والرجوع إلی عمومات الوفاء بالعقد، والحکم بمقتضاها الذی یعنی الحلیة وجواز البیع مع عدم التفاضل لوحدة الجنس کما رآه سیدنا الأستاذ(دام ظله) وجماعة من أجلة الفقهاء.

ولا یعزب عن البال هنا أن نتنبه إلی أن الرطب والتمر والزبیب والعنب إنما أخذت فی الروایات کأمثلة لموضوع البیان فی الروایات إذ إن الحکم لا یختص

ص: 58


1- وسائل الشیعة 18: 149 ب (14) من أبواب الربا ح3.
2- وسائل الشیعة 18: 150 ب (14) من أبواب الربا ح5.

بها فهو شامل لکل ما له فردان: أحدهما رطب والآخر یابس، وهذا الشمول واضح فی عموم التعلیل المذکور فی الطائفة الأولی کقوله(علیه السلام) فی روایة داود بن سرحان: «إن الرطب رطب والتمر یابس فإذا یبس الرطب نقص».

ولهذا فالحکم یشمل کافة الفواکه والأخشاب إذا بیعت بالوزن أو الکیل ولها فردان رطب ویابس وحیث انتهینا إلی الرجوع إلی العمومات المجیزة للبیع فی مثل هذه الحالة یشمل الحکم کذلک کافة ما یتصور للمسألة من أفراد وإن نقصت بعد الیبس.

*** وما یمکن أن یعقب به علی هذا الشرط من شرطی الربا الوقوف عند روایة یمکن القول بمعارضتها لأدلة المنع فی الجنس الواحد مع التفاضل فکانت مورداً للأخذ والرد بین الفقهاء، وهی:

ما رواه الشیخ الکلینی عن محمد بن یحیی عن أحمد بن محمد عن محمد بن إسماعیل عن محمد بن الفضیل عن أبی الصباح الکنانی قال: سألت أبا عبد الله(علیه السلام) عن الرجل یقول للصائغ: صُغ لی هذا الخاتم وأبدلُ لک درهماً طازجاً بدرهم غلة قال: لا بأس((1)).

ص: 59


1- الکافی 5: 250 ب (115) فی الصروف ح20.

ورواها الشیخ رحمه الله فی التهذیب بإسناده عن الحسین بن سعید عن محمد بن الفضیل((1)).

والإشکال فیها من جهة استبدال درهم الغلة وهو من أردأ أنواع الفضة بدرهم طازج وهو من أحسن أنواعها بإضافة عمل الصیاغة من درهم الغلة، فالمبادلة وقعت علی متّحدی الجنس مع فضل العمل.

وقد أفتی جماعة بمضمونها فی موردها خاصة إذ أجازوا مثل هذا الاستبدال فی صیاغة الخاتم فقط دون غیره من الأعمال والمعاملات الأخری وإن کان صیاغة لغیر الخاتم کالسوار والقلادة وشبههما، ویمکن الالتزام بهذا الحکم مع تمام سند الروایة، ولیس فی رجالها من یناقش فیه سوی محمد بن الفضیل، فإنه مشترک بین شخصین أحدهما _ کما قیل _ محمد بن القاسم بن الفضیل الثقة _ والنسبة إلی الجد لیست بعزیزة _، والآخر هو محمد بن الفضیل وقد ذکره الشیخ الطوسی1 تارة بلقب الأزدی وأخری بلقب الأزرق وثالثة بلقب الکوفی ورابعة بأنه ابن کثیر، إلا أن ما یکتنف المورد من القرائن یدل علی أن الجمیع واحد، ووصفه الشیخ بالغلو تارة، وضعفه فی مورد آخر.

وکذلک ذکره الشیخ النجاشی1 من دون تعقیب له من توثیق أو توهین.

إلا أن المحکی عن الشیخ المفید توثیقه وتعظیمه وعده فی رسالته العددیة محمد بن الفضیل من الفقهاء والرؤساء الأعلام الذین یؤخذ منهم الحلال والحرام والفتیا والأحکام ولا یطعن علیهم بشیء ولا طریق لذم واحد منهم.

ص: 60


1- تهذیب الأحکام 7: 100 ب (8) بیع الواحد بالاثنین وأکثر من ذلک وما یجوز منه وما لا یجوز ح77.

ومع أن سیدنا الأستاذ(دام ظله) یری توثیق من ورد اسمه فی کتاب کامل الزیارات، ومحمد بن الفضیل ممن ورد اسمه فیه إلا أنه انتهی إلی تضعیف الرجل لتعارض الجرح والتعدیل فیه، إذ إن مقتضی القاعدة تقدیم الجرح حکماً، قال فی المعجم بعد نقل کلام الشیخ المفید: إلا أن ذلک معارض بما عرفت من تضعیف الشیخ إیاه، إذاً لم تثبت وثاقة الرجل فلا یعتمد علی روایته((1)).

ولکن یبدو أن سبب تضعیف الشیخ له هو ما رُمِی به من الغلو، وحیث لم یعرف منشأ لهذا الاتهام مع ما یشاهد من اللهجة المعظمة له من الشیخ المفید1 فیرجح لدی النفس اعتقاد وثاقة الرجل وعظمته وجلالته، فلا یبقی احتمال تردده بین الثقة وغیره کما فی لسان بعضهم.

وبناء علی تمامیة السند لا مانع من العمل بالروایة، ولکن لمعارضتها للروایات الصحیحة المتکاثرة المانعة من التفاضل بین فردی الجنس الواحد لا بد من الاقتصار علی موردها خاصة، فیحکم بالجواز فیه، ولاشک أن الاحتیاط یقتضی ترک هذه المعاملة أیضاً للعمومات.

الشرط الثانی: اعتبار الکیل والوزن فی العوضین

وهذا الشرط أیضاً مما لا إشکال فیه، وهو مضمون کثیر من روایات المسألة، فمنها ما رواه:

ص: 61


1- معجم رجال الحدیث 18: 151 رقم (11591).

1_ زرارة عن أبی عبد الله(علیه السلام) قال: لا یکون الربا إلا فیما یکال أو یوزن((1)).

2_ منصور قال: سألته عن الشاة بالشاتین والبیضة بالبیضتین، قال: لا بأس ما لم یکن کیلاً أو وزناً((2)).

3_ منصور بن حازم عن أبی عبد الله(علیه السلام) قال: سألته عن البیضة بالبیضتین قال: لا بأس به، والثوب بالثوبین قال: لا بأس به، والفرس بالفرسین فقال: لا بأس به، ثم قال: کل شیء یکال أو یوزن فلا یصلح مثلین بمثل إذا کانا من جنس واحد، فإذا کان لا یکال ولا یوزن فلا بأس به اثنین بواحد((3)).

وحینئذ فحیث لا یکون العوضان من المکیل أو الموزون لا یجری فیهما حکم الربا لو تفاضلا فی البیع وإن کانا من جنس واحد کما هو صریح الروایة الثالثة وغیرها.

وکما یرجع فی تعیین وحدة الجنس إلی العرف _ عندهم _ حیث لا نص، کذلک الأمر فی اعتبار کون الجنس مکیلاً أو موزوناً أو غیرهما، فحیث أناط الشرع الحرمة بالکیل والوزن دون أن یعین ما یکال أو یوزن لا بد من الرجوع حینئذ فیهما إلی صدقهما زماناً ومکاناً؛ ولهذا کان لابد من اختلاف الحکم حیث یختلفان، فالبرتقال الذی کان یباع عدّاً فی وقت لا یعتبر التفاضل فیه ربا بخلافه الآن حیث یباع بالوزن، وهکذا فی الخس الذی یباع الآن فی النجف وزناً بینما قد

ص: 62


1- وسائل الشیعة 18: 132 ب (6) من أبواب الربا ح1.
2- وسائل الشیعة 18: 134 ب (6) من أبواب الربا ح5.
3- وسائل الشیعة 18: 153 ب (16) من أبواب الربا ح3.

یباع فی غیرها عداً، فبیعه فی النجف مع التفاضل ربا دونه فی البلد الذی یباع فیه عداً، وهکذا، إذن فالرجوع فیه إلی العرف السائد فی بلد البیع وزمانه، ولیس المناط هو المعاملة الشخصیة إذا أوقعت مخالفة لمتداول البلد أو الزمان.

ولهذا فما نسب إلی العلامة1 فی تعیین بعض الأصناف من المکیل والموزون دون أصناف أخری حیث اعتبرها من المعدود غیر قائم علی قاعدة کلیة ثابتة، فلا یتم بقول مطلق، ولعله نظر إلی خصوص ما یجری فی بلده وزمانه إذ لا نص شرعیاً علیه.

وهنا تساؤل لعله یرد فی صورة الشک فی التفاضل والتساوی فی العوضین؛ حیث اشترطنا التساوی فی صحة بیع متحدی الجنس حیث یباع مقدار من الحنطة بمقدار منها ویجهل تساویهما أو تفاضلهما وزناً أو کیلاً.

وجماعة کثیرة من الفقهاء ومنهم سیدنا الأستاذ(دام ظله) لم یتعرضوا لهذه المسألة بینما ذکرها آخرون ومنهم السید الیزدی1 فی ملحق العروة الوثقی، وقد یقال فیها بالصحة اعتماداً علی أن الشبهة موضوعیة.

ولکن سبق منا أن قلنا باختصاص الربا العوضی بالبیع، کما قلنا: إن من شرائط البیع فی المتماثلین جنساً تساویهما مقداراً بنحو یری العرف ارتفاع الغرر الممنوع فی کل معاملة، وننیط ارتفاع الغرر بالنظرة العرفیة؛ لأن الالتزام بالارتفاع الواقعی للغرر یقتضی بطلان معظم المعاملات إن لم نقل الکل، إذ الدقة الواقعیة فی الأوزان والمکاییل وغیرها من المستحیلات العادیة، إذ إن الحکم بالبطلان لا

ص: 63

یختص بعصر خاص أو بلد خاص، بل هو شامل لکافة الأزمان والبلدان حتی ما کان فی عصر الرسول6، وهو ما لا یمکن تصوره من أحد.

إذن فعلی ما اخترناه لا یبقی موضوع لهذا الفرع أصلاً، ولا سیما مع ما سیأتی من منع بیع المتجانسین نسیئة حتی مع التساوی؛ إذ التماثل المشروط فی متحدی الجنس یعنی بطلان البیع ما لم تعلم المماثلة، ومن دون هذا العلم یحکم بالبطلان؛ إذ المشروط عدم عند انعدام شرطه فلا مورد للشک بل الشک یساوق العدم.

وأما فی المعاوضات غیر البیع کأن تکون بنحو الصلح أو الهبة المعوضة فقد قلنا: إنها غیر مشمولة لأدلة الربا، وحینئذ فلا مانع فیها من التفاضل بین متحدی الجنس فضلاً عما إذا شک فی التفاضل والتساوی.

نعم، علی مبنی صاحب العروة1 من شمول أدلة الربا لکافة المعاوضات مع البیع أمکن تعقل الشک فیجری فیه ما ذکروه علی مبناهم من احتمال إجراء حکم الشبهة الموضوعیة فیه.

*** وکما عقبنا الحدیث فی الشرط الأول بالوقوف عند روایة قد یظهر منها معارضتها لأدلة ذلک الشرط نقف هنا کذلک عند روایة یمکن أن تستشف منها هذه المعارضة، إذ کما عرفنا أن مفاد أدلة الشرط الثانی اعتبار الکیل والوزن فی تحقق الربا، فما لم یکن الجنس مکیلاً أو موزوناً کأن یکون معدوداً أو

ص: 64

جزافاً لا مانع من التفاضل فیه إذا جعل عوضین فی معاملة بیع، وقلنا: إن هذا مما لا إشکال فیه، إلا أن هنا روایة یرویها محمد بن مسلم فی الصحیح قال: سألت أبا عبد الله(علیه السلام) عن الثوبین الردیئین بالثوب المرتفع، والبعیر بالبعیرین، والدابة بالدابتین، فقال: کره ذلک علی(علیه السلام) فنحن نکره إلا أن یختلف الصنفان، قال وسألته عن الإبل والبقر والغنم أو أحدهن فی هذا الباب قال: نعم، نکرهه((1)).

ومعنی الکراهة المبغوضیة المساوقة للحرمة، فتکون هذه الروایة واضحة المعارضة لما سبق من روایات جوزت التفاضل فی غیر المکیل والموزون کما هو صریح روایتی منصور المضمرة والثانیة عن أبی عبد الله(علیه السلام)، ومضمون روایة زرارة کذلک.

ولعل التأمل فی الروایة یقتضی أن الروایة واردة فی مقام التقیة؛ لأن منع التفاضل فی المعدود مسلک بعض المذاهب الأخری، وهذا ما یفسر عدول الإمام(علیه السلام) عن بیان الحکم الواقعی بأن نسب الکراهة إلی الإمام علی(علیه السلام)، فلا یمکن العمل بمضمونها.

والظاهر أن هذا هو الوجه فی الانصراف عن الروایة لا ما قیل من معارضتها لروایة سلمة عن أبی عبد الله عن أبیه عن علی(علیه السلام): أنه کسا الناس بالعراق وکان بالکسوة حلة جیدة، قال فسألها إیاه الحسین(علیه السلام) فأبی، فقال الحسین: أنا أعطیک

ص: 65


1- وسائل الشیعة 18: 154 ب (16) من أبواب الربا ح7.

مکانها حلتین فأبی، فلم یزل یعطیه حتی بلغ خمساً، فأخذها منه ثم أعطاه الحلة، وجعل الحلل فی حجره، وقال لآخذن خمسة بواحدة((1)).

إذ لیس فی الروایة دلالة علی أن ما فعله(علیه السلام) کان بیعاً فالإمام(علیه السلام) کان یکسو الناس مجاناً، وحباءً، ولما عرف عنه من عدم التفرقة بین الناس لم یرد أن یمیز ولده علی الآخرین بشیء إلا أن إصرار ولده وإبداله الحلة بخمس رفع العائق الذی أوقفه عن إعطائه لولده فأعطاها إیاها.

ومع التنزل وتسلیم أن ما جری بینهما8 کان بیعاً إلا أن المعاملة جرت بین الوالد وولده، وسیأتی فی العدید من الروایات _ إن شاء الله _ ما یدل علی انتفاء الربا بین الوالد وولده، کما فی روایة:

عمرو بن جمیع عن أبی عبد الله(علیه السلام) قال: قال أمیر المؤمنین(علیه السلام) لیس بین الرجل وولده ولیس بین السید وعبده ربا((2)).

وحینئذ فیمکن أن تکون الروایة التی تحکی فعل علی(علیه السلام) والحسین(علیه السلام) من أدلة تلک المسألة.

وعلیه یکون المخلص من روایة محمد بن مسلم المتقدمة المتضمنة للکراهة ما ذکرناه من احتمال التقیة، وهو کافٍ فی رفع الید عنها، وتبقی أدلة جواز التفاضل فی غیر المکیل والموزون من دون أدنی إشکال.

ص: 66


1- وسائل الشیعة 18: 154 ب (16) من أبواب الربا ح6.
2- وسائل الشیعة 18: 135 ب (7) من أبواب الربا ح1.

الفصل الثانی ربا القرض

الفصل الثانی: ربا القرض

مما لا إشکال فیه ولا ریب فی تحقق الربا فی القرض، وهو أن یشترط المقرض علی المقترض زیادة علی المبلغ الذی أقرضه إیاه سواء أکانت الزیادة عینیة _ کأن یدفع إلیه مبلغا إضافیاً أو عیناً أخری _ أم حکمیاً _ کأن یشترط دفع صنف أجود مما أقرضه إیاه _، وقد سبق العدید من أدلة التحریم فی المقدمة ویزاد هنا ما رواه:

1_ علی بن جعفر فی (کتابه) عن أخیه(علیه السلام) قال: وسألته عن رجل أعطی رجلاً مائة درهم یعمل بها علی أن یعطیه خمسة دراهم أو أقل أو أکثر هل یحّل ذلک؟ قال: لا، هذا الربا محضاً((1)).

2_ داود الأبزاری عن أبی عبد الله(علیه السلام) قال لا یصلح أن تقرض ثمرة وتأخذ أجود منها بأرض أخری غیر التی أقرضت منها((2)).

ص: 67


1- وسائل الشیعة 18: 137 ب (7) من أبواب الربا ح7.
2- وسائل الشیعة 18: 144 ب (12) من أبواب القرض ح1.

وواضح أن الروایة الأولی ذکرت الزیادة العینیة بینما ذکرت الثانیة الزیادة الحکمیة وهی الجودة، کما أنهما شملتا ما یمکن أن تلحظ فیه الزیادة فهی قد تُشترط بملاحظة المال المقرض فقط دون ملاحظة الزمن أیضاً، کما یمکن أن تُشترط بملاحظة الزمن مع المال، فکلما تأخر المال فترة جعلت زیادة إضافیة علی المبلغ.

فزید قد یقرض عمْراً مائة دینار علی أن یردها إلیه مائة وخمسین، وقد یقرضها إیاه علی أن یعطیه فی کل شهر عشرة دنانیر وهکذا، فالمائة فی کلتا الحالین تعتبر رأس المال الذی یستحقه المقرض فی ذمة المقترض والزیادة هی الربا، سواء عُیِّنَت علی مقدار المال فقط أو علیه وعلی المدة التی یمکث المال لدیه فیها.

وربا القرض إنما یحرم مع اشتراط هذه الزیادة حین الإقراض کما صرحت به روایات الباب، ومنها الروایتان السابقتان، أما ما یدفعه المقترض إلی المقرض دون شرط فلا مانع من استلامه وقد ورد العدید من الروایات فی هذا الشرط منها ما رواه:

1_ حفص بن غیاث عن أبی عبد الله(علیه السلام) قال: الربا رباءان: أحدهما ربا حلال والآخر حرام، فأما الحلال فهو أن یقرض الرجل قرضاً طمعاً أن یزیده ویعوضه بأکثر مما أخذه بلا شرط بینهما، فهو مباح له ولیس له عند الله ثواب فیما أقرضه،

ص: 68

وهو قوله(عزوجل) [فَلا یَرْبُو عِندَ الله]((1))، وأما الربا الحرام فهو: الرجل یقرض قرضاً ویشترط أن یرد أکثر مما أخذه فهذا هو الحرام((2)).

2_ إسحاق بن عمار عن أبی الحسن(علیه السلام) قال: سألته عن الرجل یکون له مع رجل مال قرضاً فیعطیه الشیء من ربحه مخافة أن یقطع ذلک عنه فیأخذ ما له من غیر أن یکون شرط علیه، قال: لا بأس بذلک ما لم یکن شرطاً((3)).

وعلی هذین الوجهین تحمل الروایات المطلقة التی وردت فی الباب مما ظاهرها الجواز أو المنع، فمما دل علی المنع:

1_ ما روی مرسلاً من غیر طرقنا عن الرسول6 أنه قال: کل قرض جر نفعاً فهو حرام (ربا)((4)).

2_ ما رواه یعقوب بن شعیب عن أبی عبد الله(علیه السلام) قال سألته عن الرجل یسلم فی بیع أو تمر عشرین دیناراً، ویقرض صاحب السلم عشرة دنانیر أو عشرین دیناراً قال: لا یصلح، إذا کان قرضاً یجر شیئاً فلا یصلح.

قال وسألته عن رجل یأتی حریفه وخلیطه فیستقرض منه الدنانیر فیقرضه، ولولا أن یخالطه ویحارفه ویصیب علیه لم یقرضه، فقال: إن کان معروفاً ما بینهما فلا بأس، وإن کان إنما یقرضه من أجل أنه یصیب علیه فلا یصلح((5)).

ص: 69


1- سورة الروم: 39.
2- وسائل الشیعة 18: 160 ب (18) من أبواب الربا ح1.
3- وسائل الشیعة 18: 354 ب (19) من أبواب القرض والدین ح3.
4- ینظر: کشف الخفاء ومزیل الإلباس عما اشتهر من الأحادیث علی ألسنة الناس للعجلونی:2/125.
5- وسائل الشیعة 18: 356 ب (19) من أبواب القرض والدین ح9.

وأما ما ورد فی جواز الانتفاع بالقرض فمنه ما رواه:

1_ محمد بن عبدة قال: سألت أبا عبد الله(علیه السلام) عن القرض یجر المنفعة، فقال: خیر القرض الذی یجر المنفعة((1)).

2_ محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبد الله(علیه السلام) عن الرجل یستقرض من الرجل قرضاً ویعطیه الرهن إما خادماً وإما آنیة وإمّا ثیاباً فیحتاج إلی شیء من منفعته((2)) فیستأذن فیه فیأذن له، قال إذا طابت نفسه فلا بأس. قلت: إن من عندنا یروون أن کل قرض یجر منفعة فهو فاسد، فقال: أو لیس خیر القرض ما جرّ منفعة؟((3)).

وواضح أن الروایتین المفصلتین مبینتان لما فی هاتین الطائفتین من إجمال؛ فالطائفة الأولی واردة حیث تشترط الزیادة حین القرض، بینما تعنی الطائفة المجوزة موارد عدم الشرط، ففی روایة یعقوب بن شعیب دلالة واضحة علی الشرط، وفی روایة محمد بن مسلم دلالة علی عدم الشرط واضحة بأدنی تأمل.

إذن فلا بد لحرمة الزیادة التی تؤخذ علی القرض من اشتراطها حین العقد سواء أکان الشرط صریحاً أم ضمنیاً.

***

ص: 70


1- الکافی 5: 256 ب (119) القرض یجر المنفعة ح2، ووسائل الشیعة 18: 355 ب (19) جواز قبول الهدیة والصلة ممن علیه الدین ح5.
2- فی نسخة: أمتعته.
3- وسائل الشیعة 18: 354 ب (19) من أبواب القرض والدین ح 4.

حکم ما یؤخذ ربا من الأموال

لاشک فی أن مرتکب الربا عن علم بالحکم والموضوع مأثوم؛ إذ أدلة التحریم واضحة الدلالة علی الحرمة التکلیفیة، وربما یمکن عدها من أکبر الکبائر، ولا مجال للشک فی هذا بعدما ذکرناه من النصوص فی المقدمة التی تشدد النکیر علی هذا العمل، إلا أن من شرائط المؤاخذة علی الحرمة التکلیفیة العلم بالحکم والموضوع فحیث لا یتحقق العلم ولا سیما حین یکون عن قصور من المکلف فإن المؤاخذة ترتفع ولا شک لأدلة البراءة المعروفة، وتحقیقه موکول إلی محله.

وإنما الکلام فی الأثر الوضعی للمعاملة الربویة حین تقع عن جهل أو حین یرید المکلف التوبة عما عمله حین طیشه وعناده وهو یرید التخلص من آثار تلک المعاملات.

وقد اختلف العلماء فی هذه الناحیة، ولفهم المسألة بصورة أوضح ینبغی التفرقة بین ربا القرض وربا المعاوضة أو البیع _ علی المختار _، فأما ربا القرض فقد وردت النصوص فی صحة القرض وإمکان تناول ما أخذ ربا حین الجهالة أو بعد التوبة حیث لا یتمیز عن سواه أو یعرف صاحبه الذی أخذه منه، فمن الآیات:

ص: 71

1_ قوله تعالی: [یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُواْ اتَّقُواْ الله وَذَرُواْ مَا بَقِیَ مِنَ الرِّبَا إِن کُنتُم مُؤْمِنِینَ فإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِنَ الله وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَکُمْ رُؤُوسُ أموالکُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ]((1)).

2_ [فَمَن جَآءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن ربهِ فَانتهَیَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَی الله وَمَنْ عَادَ فَأولئک أصحاب النَّارِ هُمْ فِیهَا خَالِدُونَ]((2)).

ومن الروایات ما رواه:

1_ هشام بن سالم فی الصحیح عن أبی عبد الله(علیه السلام) قال: سألته عن الرجل یأکل الربا وهو یری أنه له حلال قال: لا یضره حتی یصیبه متعمداً، فإذا أصابه متعمداً فهو بالمنزل الذی قال الله(عزوجل)((3)).

وهو(علیه السلام) یشیر بهذا إلی قوله تعالی: [فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ]((4)).

2_ الوشاء عن أبی المغرا قال: قال أبو عبد الله(علیه السلام) کل ربا أکله الناس بجهالة ثم تابوا فإنه یقبل منهم إذا عرف منهم التوبة، وقال: لو أن رجلاً ورث من أبیه مالاً وقد عرف أن فی ذلک المال ربا ولکن قد اختلط فی التجارة بغیر حلال کان حلالاً طیباً فلیأکله، وإن عرف منه شیئاً أنه ربا فلیأخذ رأس ماله ولیرد الربا، وأیما

ص: 72


1- البقرة: 278 _ 279.
2- البقرة: 275.
3- وسائل الشیعة 18: 128 ب (5) من أبواب الربا ح1.
4- البقرة/279.

رجل أفاد مالاً کثیراً قد أکثر فیه من الربا فجهل ذلک ثم عرفه بعد فأراد أن ینزعه فما مضی فله ویدعه فیما یستأنف((1)).

3_ الحلبی فی المعتبر عن أبی عبد الله(علیه السلام) قال أتی رجل أبی(علیه السلام) فقال: إنی ورثت مالاً وقد علمت أن صاحبه الذی ورثته منه کان یربی، وقد أعرف أن فیه ربا وأستیقن ذلک، ولیس یطیب لی حلاله لحال علمی فیه، وقد سألت فقهاء أهل العراق وأهل الحجاز فقالوا: لا یحل أکله، فقال أبو جعفر(علیه السلام): إن کنت تعلم بأن فیه مالاً معروفاً ربا، وتعرف أهله فخذ رأس مالک، ورد ما سوی ذلک، وإن کان مختلطاً فکله هنیئاً، فإن المال مالک واجتنب ما کان یصنع صاحبه، فإن رسول الله(صلی الله علیه و آله) قد وضع ما مضی من الربا وحرم علیهم ما بقی، فمن جهل وسع له جهله حتی یعرفه، فإذا عرف تحریمه حرم علیه ووجب((2)) علیه فیه العقوبة إذا رکبه کما یجب علی من یأکل الربا((3)).

4_ محمد بن مسلم فی الصحیح قال: دخل رجل علی أبی جعفر(علیه السلام) من أهل خراسان قد عمل بالربا حتی کثر ماله، ثم إنه سأل الفقهاء فقالوا: لیس یقبل منک شیء إلا أن ترده إلی أصحابه، فجاء إلی أبی جعفر(علیه السلام) فقص علیه قصته، فقال أبو جعفر(علیه السلام) مخرجک من کتاب الله: [فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَیَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَی اللّهِ ]((4))، والموعظة: التوبة((5)).

ص: 73


1- وسائل الشیعة 18: 128 ب (5) من أبواب الربا ح2.
2- فی نسخة: وجبت.
3- وسائل الشیعة 18: 129 ب (5) من أبواب الربا ح3.
4- البقرة: 275.
5- وسائل الشیعة 18: 130 ب (5) من أبواب الربا ح7.

5_ أحمد بن محمد بن عیسی فی نوادره عن أبیه قال: إن رجلاً أربی دهراً من الدهر فخرج قاصداً أبا جعفر الجواد(علیه السلام) فقال له: مخرجک من کتاب الله، یقول الله: [فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَیَ فَلَهُ مَا سَلَفَ]((1)) والموعظة هی التوبة، فجهله بتحریمه ثم معرفته به فما مضی حلال وما بقی فلیتحفظ((2)).

ودلالتها علی صحة القرض، وحلیة ما تناوله المرابی فی حالتی الجهل وبعد التوبة من العصیان واضحة بما لا نقاش فیه، فیجوز له مثل هذا التناول لهذه النصوص، نعم إذا سلم الربا من ماله وعلم صاحبه وجب رده إلیه.

والغریب أن جماعة من أجلة الفقهاء کالسید الیزدی1 حملوا هذه الروایات _ مع وضوح دلالتها علی ما ذکرنا _ علی المقاصة بالربا عن رأس المال، فأحلوا لمن لم یستطع استرجاع ما أقرضه لآخر أن یأخذ منه الربا ویحتسبه من رأس المال، حتی یستوفی ماله الذی فی ذمة المدین، فیکون أکل المال الربوی بعنوان المقاصة التی تعنی المعاوضة القهریة؛ إذ یرد علیه:

أولاً: أن الآیة تصرح بمشروعیة استرجاع رأس ماله من المقترِض بعد التوبة؛ إذ یقول تعالی: [وَإِن تُبْتُمْ فَلَکُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِکُمْ]((3)) اللهم إلا أن یُدعی دلالتها علی تقدیر المقدار أی إن تبتم فلکم مقدار رؤوس أموالکم، وحینئذ فلصاحب المال ما تبقی من رأس المال بعد إخراج ما استلمه فی الربا منه، إلا أن هذا التقدیر مما یحتاج إلی قرینة وهی مفقودة.

ص: 74


1- سورة البقرة: 279.
2- وسائل الشیعة ب(5) من أبواب الربا ح10، وفی نسخة (فلیستحفظ)
3- سورة البقرة: 279.

ثانیاً: أن إمکان حمل جواز أکل الربا علی المقاصة إنما یصح إذا کان ما أکله المرابی مساویاً لرأس المال ولیس زائداً أو ناقصاً عنه؛ إذ فیه یتحقق معنی المقاصَّة، ولکن هذا القید لا وجود له فی واحد من الأدلة السابقة بل ولا یمکن احتماله فی بعضها، کما فی روایة الحلبی إذ قال أبو جعفر(علیه السلام): (إن کنت تعلم بأن فیه مالاً معروفاً ربا وتعرف أهله فخذ رأس مالک ورد ما سوی ذلک، وإن کان مختلطاً فکله هنیئاً)((1))، وهکذا غیرها.

إذن فما ذکره السید الیزدی1 لا شاهد علیه.

***

أما ربا البیع فقد ذکرت له احتمالات ثلاثة:

الأول: الحکم ببطلان المعاملة الربویة کلیاً، ورجوع کل من العوضین إلی مالکه، وهو مختار جماعة من الأعلام منهم السید الحکیم1 وسیدنا الأستاذ(دام ظله).

الثانی: التفصیل بین کون الزیادة جزءاً فتبطل المعاملة وبین کونها شرطاً فتصح المعاوضة بناءً علی أن فساد الشرط لا یفسد المعاملة؛ فتکون هذه المسألة حینئذ من صغریات تلک المسألة، وهی أن فساد الشرط هل یقتضی فساد المعاملة أو لا؟.

ص: 75


1- وسائل الشیعة 18: 139 ب (5) من أبواب الربا ح3.

الثالث: الصحة مطلقاً وإمکان تناول ما أخذه ربا عن جهل أو عصیان بعد التوبة کما فی الدَّین، ومع أننا لم نرَ من الفقهاء من اتخذ هذا الاحتمال رأیا إلا أنه احتمال وارد.

ومنشأ الخلاف فی المسألة والاحتمالات السابقة هو ما یدعی من شمول الأدلة السابقة المذکورة فی القرض للبیع الربوی أیضاً سواء أکان هذا الشمول بنحو مطلق فتکون أدلة الاحتمال الثالث، أم فی خصوص ما أخذت الزیادة شرطاً فیه فتکون من أدلة الاحتمال الثانی.

ولکن قبل الدخول فی ملاحظة دلالة الأدلة علی المطلوب هنا علینا أن نقف علی وجهین من الاختلاف بین ربا القرض وربا المعاوضة أو البیع.

الوجه الأول: أن ربا القرض _ کما سبق أن عرفنا _ یعنی أن فی ذمة المقترض مبلغاً من المال هو مقدار ما سلّمة المقرض له، مع زیادة معینة محددة أو متصاعدة حسب العقد، فالأول هو ما یسمی برأس المال، بینما الزیادة هی الربا، ففی الربا القرضی یتمیز رأس المال عن الزیادة علیه ومثل هذا التمایز لا یتحقق فی ربا البیع؛ لأن الربا فیه یتصور فی کیفیتین:

الأولی: أن یباع منٌ مِن الحنطة بمَنَّین منها، وواضح فی هذه الکیفیة أن کلا المنین جعلا ثمناً للبیع، فلیس هنا تمایز بین ما یمکن تسمیته برأس المال مقابل الربا.

الثانیة: أن یباع المنُّ مِنَ الحنطة بمَنٍ منها مع شرط زیادة عینیة کعمل أو شیء آخر یضاف للمن الثمن، فإن هذه الزیادة وأن تمیزت عن مَنّ الحنطة، إلا أن

ص: 76

العرف یری المجموع _ من الشرط والمشروط _ ثمناً، وأن هذا التمایز لا یستوجب تسمیة مَن الحنطة برأس المال والزیادة وحدها ربا؛ إذ رأس المال یعنی ما یملکه الشخص ملکاً طلقاً یستطیع التصرف فیه أنی شاء.

الوجه الثانی: أن ربا البیع یحدد مقداره فی البیع، وهو خالٍ من الزیادة التصاعدیة فیه، بینما ربا القرض حیث تلحظ المدة _ غالباً _ مع المال المقترض، فتزداد الفائدة مع مرور الزمن، فکلما طالت المدة ثبتت نسبتها من الفائدة، وهذا هو الربا المعروف فی زمن الجاهلیة.

وحینئذ_ وبملاحظة هذین الوجهین فی الفرق _ یتضح أن مصبّ الأدلة السابقة کلها هو القرض ولیس فیها أدنی علاقة بربا البیع؛ ولهذا فإن محاولة الاستدلال علی تصحیح ربا البیع _ مع الجهل _ بها غیر تامة البتة.

وأما الآیة الأولی، فهی تأمر بترک ما بقی من الربا، وهذا یعنی وجود استمراریة زمنیة فی الربا، وهی إنما تتفق مع ربا القرض حیث تجعل نسبة الربا علی مدة بقاء المال لدی المقترض، فهناک قسم من الربا مضی استلامه وهناک ما سیستلم فی المستقبل والآیة تأمر بترکه، والبیع لا یتصور فیه مثل هذه الاستمراریة.

وهذا نفسه متصور فی ذیل الآیة الثانیة التی تعین استحقاق رأس المال بعد التوبة، فهذه التفرقة إنما تصورناها فی ربا القرض سابقاً، والتسمیة برأس المال إنما تنطبق علیه.

ویؤید هذا بما ورد فی سبب نزول هذه الآیات إذ روی:

ص: 77

1_ الطبرسی قال: روی عن الباقر(علیه السلام): أن الولید بن المغیرة کان یُربی فی الجاهلیة وقد بقی له بقایا علی ثقیف فأراد خالد بن الولید المطالبة بعد أن أسلم، فنزلت الآیة((1)).

2_ علی بن إبراهیم: أنه لما أنزل الله [الَّذِینَ یَأْکُلُونَ الرِّبَا لاَ یَقُومُونَ إِلاَّ کَمَا یَقُومُ الَّذِی یَتَخَبَّطُهُ الشَّیْطَانُ مِنَ الْمَسِّ]((2)) فقام خالد بن الولید إلی رسول الله(صلی الله علیه و آله) فقال:

یا رسول الله: ربی أبی فی ثقیف وقد أوصانی عند موته بأخذه، فأنزل الله تبارک وتعالی: [یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِیَ مِنَ الرِّبَا إِن کُنتُم مُّؤْمِنِینَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ]((3))، قال: من أخذ الربا وجب علیه القتل، وکل من أربی وجب علیه القتل((4)).

3_ الطبری فی تفسیره عن السّدی قال: نزلت هذه الآیة فی العباس بن عبد المطلب ورجل من بنی المغیرة کانا شریکین فی الجاهلیة سلفاً فی الربا إلی أناس من ثقیف من بنی عمرو، وهم بنو عمرو بن عمار فجاء الإسلام ولهما أموال عظیمة من الربا فأنزل الله: (ذروا ما بقی) من فضلٍ کان فی الجاهیة (من الربا)((5)).

وقد عقب صاحب المیزان1 علی روایات فی أسباب النزول ذکرها بقوله:

والروایات فی هذه المعانی کثیرة، والمتحصل من روایات الخاصة والعامة أن الآیة نزلت فی أموال من الربا کانت لبنی المغیرة علی ثقیف، وکانوا یربونهم فی

ص: 78


1- وسائل الشیعة 18: 131 ب (5) من أبواب الربا ح8.
2- البقرة: 275.
3- البقرة: 278_279.
4- تفسیر القمی 1: 93 فی تفسیر آیة (273 _ 280) من سورة البقرة.
5- تفسیر جامع البیان للطبری 3: 65 فی تفسیر آیة 278 من سورة البقرة.

الجاهلیة فلما جاء الإسلام طالبوهم ببقایا کانت لهم علیهم فأبوا عن التأدیة لوضع الإسلام ذلک، فرفع أمرهم إلی رسول الله(صلی الله علیه و آله)، فنزلت الآیة((1)).

وروایات أسباب النزول وإن لم تکن دلیلاً مستقلاً فی المقام ولکنها تصلح لتأیید ما استظهرناه من الآیة.

ومثل هذه الآیة فی الدلالة روایات کروایة أبی المغرا السابقة((2)) فإنها واردة حیث یمکن امتیاز الربا عن رأس المال ثم یختلط أو لا یختلط، وهذا إنما یتصور فی القرض _ کما بیناه _.

أما روایة الحلبی ففیها قرائن عدة علی اختصاصها بالقرض منها:

1_ تصریحها بأن المورث کان یُربی، وهو اصطلاح عرفی یقال لمن یقرض المال بالربا، ولا یقال لمن یبیع الجنس الواحد مثلاً بمثلین وأکثر.

2_ وتصریحها بامتیاز الربا عن غیره، وهو إنما یکون فی القرض.

3_ تصریحها أیضاً بتمییز رأس المال عن الربا.

وهذه الفروق موجودة کذلک فی معظم الروایات السابقة، واستشهدت الروایتان الرابعة والخامسة بالآیة وطبقتها علی القرض خاصة.

هذا، ولکن الروایة الأولی المتقدمة عن هشام بن سالم مطلقة الدلالة بالنسبة لما یؤخذ ربا بالقرض والبیع، وقد وردت نفس هذه الروایة بطریق آخر عن هشام

ص: 79


1- تفسیر المیزان 2: 426 فی تفسیر آیة (275 _ 281) من سورة البقرة.
2- وسائل الشیعة 18: 128 ب (5) من أبواب الربا ح2.

بن سالم أیضاً عن أبی عبد الله(علیه السلام) مع اختلاف بسیط، إلا أن حملها کذلک علی ربا القرض مما لا بد منه لأمرین:

أولاً: لوجود قرینة فی نفس الروایة ترجح هذا الحمل وهی قوله (الرجل یأکل الربا وهو یری أنه حلال)، وهذا یعنی وجود شیء لدی الشخص یسمیه ربا إلا أنه إنما أکله لاعتقاده بحلیته، وهذا إنما یتصور فی الربا القرضی فهی تصرح بامتیاز الربا المأکول عن غیره.

ثانیاً: مع تسلیم وجود الإطلاق فی الروایة، لا بد من تقییده بما یدل علی الاختصاص بربا القرض من الآیات والروایات السابقة وفتوی المشهور بل الإجماع المّدعی.

إذن فلا دلیل علی تصحیح البیع الربوی، سواء أکان الربا شرطاً فیه أم جزءاً، وهذا یعنی بطلان کلا الاحتمالین الثانی والثالث.

وأما بطلان البیع الربوی فقد استدل علیه بوجوه:

1_ الإجماع، ولکن إثبات أنه الإجماع الذی یمکن استکشاف رأی المعصوم فیه غیر تام، والمنقول منه لیس حجة کما هو معروف ومثله لو کان فهو مدرکی أو محتمل المدرک فهو تابع لأدلته.

2_ ورود النهی عن أکل ما یأخذه المرابی بالمعاملة الربویة، والنهی یستدعی التحریم إما لنفس الزیادة أو هی مع ما یقابل المبیع، وحیث لا تتمیز فالبیع باطل؛ إذ العوضان رکنان أساسیان فی المبیع کما هو معروف ویرد علی هذا الدلیل:

ص: 80

1_ أن النهی إنما ورد فی القرض الربوی لا فی البیع الربوی؛ إذ فی القرض وحده یمکن تمییز الفائدة عن رأس المال، وأما فی البیع فلا یمکن التمییز.

2_ أن کبری الدلیل فی نفسها غیر تامة؛ إذ حتی فی ربا القرض حیث یقطع بورود الأدلة لم یمنع النهی عن الزیادة عن حلیة تناوله حین الجهل وبعد التوبة کما سبق.

نعم قد یقال: إن النهی عن الزیادة إنما یسری إلی ذات المعاملة حیث لا یمکن فی البیع تمییز الربا عن الأصل فیها مما یعنی أن النهی عن الزیادة عرفاً یستدعی النهی عن کل ما یأخذه المرابی فی المعاملة الربویة، بل کل ما تستوجبه المعاملة من التعاوض ودخول کل من العوضین فی ملک الآخر، کما استفید هذا من مثل قول أبی الحسن(علیه السلام) فی روایة إبراهیم بن أبی البلاد: (ثمن الکلب والمغنیة سحت)((1)) فتأمل.

3_ ما اعتمده صاحب الجواهر1 وجل من تأخر عنه: من أن المعاملات تابعة للقصد، وکلا المتعاملین فی المعاملة الربویة إنما قصدا أن تکون زیادة الثمن فی المتجانسین، فالحکم بالصحة فی مقابل ما یعادل البیع فقط والبطلان فیما زاد عنه من دون سند؛ إذ لم یقصده المتعاملان، وبما أن المعاملة واحدة فلا بد من بطلانها کلیاً.

وهذا التوجیه وإن سلم فی نفسه إلا أنه غیر وارد هنا إذ لو جری فی المعاملة الربویة للزم القول ببطلان القرض الربوی أیضاً، وهو ما صححته الأدلة الواردة فیه واستوجبت انشغال ذمة المقترض بأصل المبلغ للمقرِض.

ص: 81


1- وسائل الشیعة 17: 123 ب (16) من أبواب ما یکتسب به ح4.

ولا یقال هنا: إن سبب اشتغال ذمة المقترض إنما هو استیلاؤه ضمنیاً علی مال الغیر وهذا یعنی استمرار اشتغال الذمة حتی یؤدی المبلغ المطلوب، ولیس لصحة المعاملة القرضیة الواقعیة بینه وبین المقرض؛ لأن نتیجة مثل هذا الضمان وجوب رد العین ذاتها إلی المقرض، ولا ینتقل منها إلی المثل أو القیمة إلا بعد عدم إمکان رد العین نفسها، وهذا ما لم ینقل عن أحد.

4_ ما ورد من أدلة تنهی عن المعاوضة الربویة فی المتجانسین مع التفاضل، وهی صریحة فی النهی عن ذات المعاملة الربویة، ویضاف إلی ما سبق من أدلة ما رواه:

سیف التّمار قال: قلت لأبی بصیر: أحب أن تسأل أبا عبد الله(علیه السلام) عن رجل استبدل قوصرتین فیهما بسر مطبوخ بقوصرة من تمر مشقق، قال فسأله أبو بصیر عن ذلک فقال: هذا مکروه فقال أبو بصیر: ولم یکره؟ فقال:

إن علی بن ابی طالب(علیه السلام) کان یکره أن یستبدل وسقاً من تمر المدینة بوسقین من تمر خیبر لأن تمر المدینة أدونهما((1)).

ومثله روایات فی الباب نفسه، وروایات واردة فی تحریم البیع الربوی منطوقاً أو مفهوماً، ولا یعقل أن یکون النهی فیها تکلیفیاً محضاً؛ إذ الظاهر منه النهی الوضعی أیضاً، وهو یساوق الفساد کما هو واضح، إذن فالحق مع من ذهب إلی بطلان البیع الربوی مع قطع النظر عن علم المرابی وجهله.

***

ص: 82


1- وسائل الشیعة ب 15 من أبواب الربا ح1.

تأجیل أحد العوضین

ما سبق من الحدیث جوازاً ومنعاً یلاحظ فیه ما کان التسلیم للعوضین فعلیاً، أما إذا کان أحدهما مؤجلاً فإن هذین العوضین لا یخلو أمرهما من أن یکونا معاً من الأثمان کما لو کان البیع صرفاً، أو یکونا معاً عرضین، أو یکون أحدهما عرضاً والآخر ثمناً، ویلاحظ أن تأجیل کلا العوضین هو من بیع الدین بالدین الممنوع شرعاً.

أما لو کانا معاً ثمنین فلا شک أن شرطیة فعلیة القبض والإقباض فی بیع الصرف تمنع من تأجیل التسلیم لأحد العوضین فضلاً عن کلیهما؛ إذ من دون هذا التسلیم یصبح البیع باطلاً، وهذا مما لا إشکال فیه، والتفصیل موکول إلی بابه.

کما لا إشکال فی جواز التأجیل _ فی الجملة _ إذا کان أحد العوضین عرضاً والآخر ثمناً؛ إذ هو مورد أدلة السلم والنسیئة، وهما جائزان بشرائطهما المذکورة فی بابهما.

وإنما الکلام فیما إذا کان کلا العوضین عرضین، فهما قد یکونان متجانسین، وقد لا یکونان کذلک، وقد یکونان معا من المکیل والموزون، وقد لا یکونان

ص: 83

کذلک _ حیث یکون أحدهما أو کلاهما من المعدود أو جزافاً_، فهنا تتصور أربعة فروع ینبغی الوقوف عند کل منها:

1_ أن یکونا متجانسین وهما معاً من المکیل والموزون.

2_ أن یکونا غیر متجانسین وهما کذلک من المکیل والموزون.

3_ أن یکونا متجانسین وهما معاً أو أحدهما من غیر المکیل والموزون.

4_ أن یکونا غیر متجانسین وأحدهما أو کلاهما من غیر المکیل والموزون.

أما المسألة الأولی: فقد عرف فیها المنع حتی مع عدم التفاضل، وادعی الإجماع علیه، قال1 فی الجواهر بعد عرض ما فی المختلف بالکراهة، والاحتیاط بالتسلیم یداً بید عن المبسوط:

وفی الدروس أنه «أول کلامه بإرادة التحریم لأن المسألة إجماعیة»، قلت: لأنه نفسه منع من بیع الثیاب بالثیاب والحیوان بالحیوان نسیئة فضلاً عما نحن فیه، فمثله حینئذ لا یعدّ خلافاً بعد الإجماع بقسمیه، وظهور النصوص فی تحقق الربا بذلک بل ستعرف القول بتحققه بذلک مع اختلاف الجنس فضلاً عن متحده، انتهی((1)).

ولکن سبق أن عرفنا وکما هو مشهور فی علم الأصول أن الإجماع الحجة غیر ممکن التحصیل فی مثل هذه المسائل، وما ینقل منه غیر حجة ولا سیما مع ما سیأتی من نصوص فی المسألة، فعلی تقدیر الاتفاق من کافة الفقهاء فهو إجماع مدرکی أو محتمل المدرک، ومثله یکون الحجة فیه هو المدرک لا الإجماع، وعلیه فلا بد من الالتفات هنا إلی ما یعرض من أدلة أخری غیر الإجماع..

ص: 84


1- جواهر الکلام 23: 340_ 341.

أولها: ما ذکره الشیخ صاحب الجواهر1 فی عبارته السابقة من أولویة المنع فی المتجانسین بعد ثبوت المنع فی غیر المتجانسین بروایات تذکر فی المسألة اللاحقة ونذکر منها ما رواه:

1 _ محمد بن مسلم فی الصحیح عن أبی جعفر(علیه السلام) فی حدیث: إذا اختلف الشیئان فلا بأس مثلین بمثل یداً بید((1)).

2_ الحلبی فی الصحیح عن أبی عبد الله(علیه السلام) قال ما کان من طعام مختلف أو متاع أو شیء من الأشیاء یتفاضل فلا بأس ببیعه مثلین بمثل یداً بید، فأما نظرة فلا یصلح((2)).

وهذه الروایة أصرح من سابقتها فی المنع مع الأجل؛ إذ إن المنع فی الأولی استفید من مفهوم القید بعد اعتبار أن الأصل فیه الاحتراز، وهذا یقتضی المنع من البیع فی الأعراض حیث لا یکون التسلیم فعلیاً، أما الروایة الثانیة فهی تصرح بالمنع، ومثل هاتین الروایتین روایات أخری أیضاً، وهی وإن وردت فی مختلفی الجنس، إلا أنه للأولویة قیل بالمنع فی المتجانسین أیضاً کما رأیناه فی عبارة صاحب الجواهر1 السابقة.

ولکن لم یتضح لنا وجه هذه الأولویة المدعاة؛ لأنه إن قصد أن بیع النسیئة یعنی الزیادة الحکمیة فی أحد العوضین من جهة الأجل المضروب فی أحدهما، وهذه

ص: 85


1- وسائل الشیعة 18: 140 ب (9) من أبواب الربا ح1.
2- تهذیب الأحکام 7: 85 ب (8) فی بیع الثمار ح396، وسائل الشیعة 18: 157 ب (17) من أبواب الربا ح9.

الزیادة موجبة للبطلان فی المختلفین، فضلاً عن المتحدین فیکون هذا فیهما أولی فیرد علیه:

1_ أنه تعلیل تبرعی من دون نص من الشارع.

2_ وأنه واهن؛ إذ الروایات تصرح بجواز التفاضل العینی فضلاً عن الحکمی فی مختلفی الجنس؛ إذ إن الصحیحتین المتقدمتین تصرحان بصحة المبادلة (مثلین بمثل)، وهذا یعنی أن الزیادة بینهما شیء والأجل شیء آخر، والتعلیل السابق لا یعلل منع مثل هذا الأجل.

وإن کان یعنی بها ان المنع عن الزیادة الحکمیة مطلقاً ولو فی مختلفی الجنس یقتضی المنع عن الزیادة المقداریة مطلقاً فممنوعیته أوضح، إذن فما ذکره صاحب الجواهر1 من الأولویة لم یظهر لنا وجهه.

ثانیها: ما استدل به جماعة _ منهم السیدان الحکیم1وسیدنا الأستاذ(دام ظله) بأن بیع أحد المتجانسین بالآخر نسیئة یستدعی الزیادة الحکمیة فی المؤجل _ وإن تساویا مقداراً _ فتشمله أدلة الربا وقد أشیر إلی هذا الدلیل فی ضمن فتوی (المنهاج) إذ قال(دام ظله) فی ربا المعاوضة: (هو بیع أحد المثلین بالآخر مع زیادة عینیة.. أو زیادة حکمیة کبیع عشرین کیلو من الحنطة نقداً بعشرین کیلو من الحنطة نسیئة)((1)).

إلا أن هذا الوجه لم یتضح؛ إذ یرد علیه:

ص: 86


1- منهاج الصالحین للسید الخوئی 2: 51، کتاب التجارة.

أولاً: أن تأخیر الأجل لا یعنی الزیادة دائماً إذ قد ینعکس الأمر تارة وقد یتساوی، فمن باع منَّاً من الحنطة الآن لا یستوجب جعلُ الثمن من الحنطة بعد شهر فیه أن تکون الزیادة الحکمیة حاصلة فی الثمن؛ إذ قد تکون الزیادة فی المبیع الذی یسلم فعلاً حین البیع، کما قد یتساوی الأمر فی بعض الحالات، وعلیه فلو اعتبرت الزیادة الحکمیة هی المناط فی التحریم لوجب أن یقید الحکم فی حال تحققها لا مطلقاً.

وثانیاً: لا دلیل علی أن الزیادة الحکمیة فی أحد العوضین موجبة للتحریم؛ إذ لو کانت هذه الزیادة موجبة للتحریم لما صحّ بیع الحنطة الجیدة مَنّا بمَن من الحنطة الردیئة، ولم یقل بالمنع فیه أحد بل إن الروایات صرحت بوحدة الجنس فی الربا بین الحنطة والشعیر، وهذه الوحدة تعنی إمکان بیع الحنطة الجیدة مَناً بمنٍّ من ردیء الشعیر، والزیادة الحکمیة فی أحد العوضین هنا مع أنها أوضح مما ذکروه إلا أنها لا تمنع من صحة البیع مع التساوی حیث یمنع من التفاضل لتلافی النقص الحکمی فی المعاملة.

ثالثها: ما رواه محمد بن قیس فی الصحیح عن أبی جعفر(علیه السلام) قال: قال أمیر المؤمنین(علیه السلام): لا تبع الحنطة بالشعیر إلا یداً بید، ولا تبع قفیزاً من حنطة بقفیزین من شعیر، قال: وسمعت أبا جعفر(علیه السلام) یکره وسقاً من تمر المدینة بوسقین من تمر

ص: 87

خیبر؛ لأن تمر المدینة أجودها قال: وکره أن یباع التمر بالرطب عاجلاً بمثل کیله إلی أجل، من أجل أن التمر ییبس فینقصُ من کیله((1)).

والروایة مما اختص الشیخ1 بروایة صدرها فی التهذیب واشترک معه الشیخ الصدوق بروایة عجزها؛ إذ روی1 فی الفقیه بسنده عن محمد بن قیس عن أبی جعفر(علیه السلام) قال: سمعت أبا جعفر(علیه السلام) یقول: (یکره.. إلخ مثله)((2))، وهکذا القید المذکور فی العجز یوضح أن شرطیة التسلیم الفعلی لکلا العوضین مرادة بقوله(علیه السلام) فی الصدر: (یداً بید).

فالروایة تدل بوضوح علی بطلان المعاملة نسیئة فی العرضین المتجانسین من المکیل والموزون، وغریب أن تغیب مثل هذه الروایة عن مثل أولئک الأجلة، إذن فالحکم بالمنع مما لا إشکال فیه.

وأما المسألة الثانیة: فی بیع النسیئة فی غیر المتجانسین إذا کانا من المکیل والموزون.

فقد سبق المنع عنه فی الدلیل الأول من المسألة السابقة؛ إذ صرح به فی صحیحتی محمد بن مسلم والحلبی، ومثلهما العدید من الروایات الأخری کما فی روایة:

1_ سماعة عن أبی عبد الله(علیه السلام) قال: المختلف مثلان بمثل یداً بید((3)).

ص: 88


1- تهذیب الأحکام 7: 87 ب (8) من أبواب بیع الثمار ح14.
2- من لا یحضره الفقیه 3: 206 ب (87) ح25.
3- وسائل الشیعة 18: 147 ب (13) من أبواب الربا ح9.

2_ عبد الله بن سنان قال سمعت أبا عبد الله(علیه السلام) یقول: لا ینبغی إسلاف السمن بالزیت، ولا الزیت بالسمن((1)).

3_ الحلبی عن أبی عبد الله(علیه السلام):... قال: وسُئل عن الزیت بالسمن اثنین بواحد قال: یداً بید لا بأس((2)).

إذن فلا إشکال فی المنع أیضاً، ولا یلتفت إلی ما شکک به البعض فی دلالتها علی المقصود، کما أشار إلیه صاحب الجواهر1.

وأما المسألتان الثالثة والرابعة: حیث یکون العوضان أو أحدهما غیر مکیل أو موزون، وکلاهما من الأعراض سواء أکانا من جنس واحد أم من جنسین مختلفین، فلا مانع من الأجل فیهما، وقد دلت علی جواز النسیئة فیهما روایات صحیحة وصریحة، منها ما رواه:

1_ زرارة عن أبی جعفر(علیه السلام) قال: البعیر بالبعیرین والدابة بالدابتین یداً بید لیس به بأس، وقال لا بأس بالثوب بالثوبین یداً بید ونسیئة إذا وصفتهما((3)).

2_ سعید بن یسار قال: سألت أبا عبد الله(علیه السلام) عن البعیر بالبعیرین یداً بید ونسیئة، فقال: نعم، لا بأس إذا سمیت الأسنان جذعین أو ثنیین، ثم أمرنی فخططت علی النسیئة.

ورواه الشیخ الصدوق وزاد: لأن الناس یقولون: لا، فإنما فعل ذلک للتقیة((4)).

ص: 89


1- وسائل الشیعة 18: 148 ب (13) من أبواب الربا ح10.
2- وسائل الشیعة 18: 146 ب (13) من أبواب الربا ح4.
3- وسائل الشیعة 18: 155 ب (17) من أبواب الربا ح1.
4- وسائل الشیعة 18: 156 ب (17) من أبواب الربا ح7و8، من لا یحضره الفقیه 3: 205 ب (87) فی الربا ح20.

3_ علی بن جعفر عن أخیه موسی بن جعفر(علیه السلام) قال: سألته عن الحیوان بالحیوان بنسیئة وزیادة دراهم ینقد الدراهم ویؤخر الحیوان، قال(علیه السلام): إذا تراضیا فلا بأس((1)).

وصراحة هذه الروایات وشبهها تستدعی القول بالجواز فی مثل هذه المعاملة، إلا أن صاحب الوسائل صرح بالکراهة فی عنوان الباب الذی عنونه للجواز إذ قال: (باب جواز بیع العروض غیر المکیلة والموزونة کالدواب والثیاب بعضها ببعض متماثلة ومختلفة متساویاً ومتفاضلاً ویکره نسیئة)((2)).

والظاهر أنه استند فی هذا الحکم إلی روایات لا تنهض بالمقصود، منها ما رواه:

1_ إسماعیل بن الفضل قال: سألت أبا عبد الله(علیه السلام): عن رجل قال لرجل ادفع إلیّ غنمک وإبلک تکون معی فإذا ولدت أبدلت لک _ إن شئت _ إناثها بذکورها، أو ذکورها بإناثها؟ فقال: إن ذلک فعل مکروه إلا أن یبدلها بعد ما تولدت ویعرفها((3)).

ولکن وجه الکراهة هنا واضح، إذ الجهالة فی المعوض تمنع من صحة البیع، وهذا یعنی أن الکراهة لیست هی الحکم التکلیفی المعروف، بل هی ما یساوق المنع والحرمة عن مثل هذه المعاوضة التی لم یتم فیها تعیین معالم أحد العوضین

ص: 90


1- وسائل الشیعة 18: 160 ب (17) من أبواب الربا ح17.
2- وسائل الشیعة 18: 155 ب (17) من أبواب الربا.
3- وسائل الشیعة 18: 156 ب (17) من أبواب الربا ح5.

بالنحو الذی یرفع الجهالة؛ ولهذا عقب بقوله: (إلا أن یبدلها بعد ما تولدت ویعرفها)؛ إذ فی هذه الحالة ترتفع الجهالة فلا مانع من البیع حینئذ.

2_ محمد بن قیس عن أبی جعفر(علیه السلام) قال: لا تبع راحلة عاجلاً بعشر ملاقیح من أولاد جمل فی قابل((1)).

وهذه الروایة أیضاً مما لا یمکن الالتزام بها کدلیل لکراهة المبیع نسیئة؛ إذ البیع باطل فمع عدم تولد الإناث یکون اعتبارها کثمن عملاً غرریاً لا شک فی بطلان المبیع معه، إذن فلا دلیل علی الکراهة التی ادعاها صاحب الوسائل1.

*** تعقیب وأخیراً لا بد من التعقیب بمسألتین ذکرتا مع الربا:

أولاهما: کیفیة التخلص من المعاملة الربویة.

ثانیتهما: معالجة ما ورد من الروایات فی نفی الربا بین بعض الناس.

المسألة الأولی: وردت روایات عدیدة فی التخلص من الربا فی البیع بإضافة شیء من غیر المتجانسین إلی کلا العوضین أو إلی الناقص منهما لیکون الزائد فی

ص: 91


1- وسائل الشیعة 18: 157 ب (17) من أبواب الربا ح10.

الطرف الآخر مقابل هذا الشیء الأجنبی، وهذه الصحة لا إشکال فیها؛ إذ هی متفقة مع القواعد والروایات الواردة فیها، ومنها ما هو معتبر فمنها ما رواه:

1_ أبو بصیر عن أبی عبد الله(علیه السلام) قال: سألته عن الدراهم وعن فضل ما بینهما فقال: إذا کان بینهما نحاس أو ذهب فلا بأس((1)).

2_ عبد الرحمن بن الحجاج قال: سألته عن الصرف فقلت له: الرفقة ربما عجلت فخرجت فلم نقدر علی الدمشقیة والبصریة، وإنما تجوز بسابور الدمشقیة والبصریة؟ فقال: وما الرفقة؟ فقلت: القوم یترافقون ویجتمعون للخروج فإذا عجلوا فربما لم نقدر علی الدمشقیة والبصریة فبعثنا بالغلة فصرفوا ألفاً وخمسین درهما منها بألف من الدمشقیة والبصریة، فقال: لا خیر فی هذا أفلا تجعلون فیها ذهباً لمکان زیادتها؟ فقلت له: أشتری ألف درهم ودیناراً بألفی درهم؟ فقال: لا بأس بذلک إن أبی(علیه السلام) کان أجرأ علی أهل المدینة منّی، وکان یقول هذا فیقولون: إنما هذا الفرار لو جاء رجل بدینار لم یعط ألف درهم ولو جاء بألف درهم لم یعط ألف دینار، وکان یقول لهم: نعم الشیء الفرار من الحرام إلی الحلال((2)).

3_ الحلبی عن أبی عبد الله(علیه السلام) قال، لا بأس بألف درهم ودرهم بألف درهم ودینارین، إذا دخل فیها دیناران أو أقل أو أکثر فلا بأس به((3)).

ص: 92


1- وسائل الشیعة 18: 163 ب (20) من أبواب الربا ح2.
2- الکافی 5: 247 ب (115) فی الصروف ح9.
3- التهذیب 7: 97 ب (8) بیع الواحد بالاثنین وأکثر من ذلک وما یجوز منه وما لا یجوز ح62.

ومثلها روایات أخری فالمسألة مما لا إشکال فیها.

*** المسألة الثانیة: جاء فی أخبار متعددة أنه لا ربا بین الوالد والولد ولا بین الزوج وزوجته ولا بین المسلم والکافر ولا بین المالک والعبد _ بناءً علی ملکیته _ ، وما یذکر منها فی بابها ما رواه:

1_ عمرو بن جمیع عن أبی عبد الله(علیه السلام) قال: قال أمیر المؤمنین(علیه السلام): لیس بین الرجل وولده ربا، ولیس بین السید وعبده ربا((1)).

2_ عمرو بن جمیع عن أبی عبد الله(علیه السلام) قال: قال أمیر المؤمنین(علیه السلام): قال: قال رسول الله(صلی الله علیه و آله) لیس بیننا وبین أهل حربنا ربا، نأخذ منهم الف درهم بدرهم ونأخذ منهم ولا نعطیهم((2)).

3_ یس الضریر عن حریز عن زرارة عن أبی جعفر(علیه السلام) قال: لیس بین الرجل وولده وبینه وبین عبده ولا بین أهله ربا، إنما الربا فیما بینک وبین ما لا تملک، قلت: فالمشرکون بینی وبینهم ربا؟ قال: نعم، قال: قلت: فإنهم ممالیک، فقال: إنک لست تملکهم إنما تملکهم مع غیرک أنت وغیرک فیهم سواء، فالذی بینک وبینهم لیس من ذلک، لأن عبدک لیس مثل عبدک وعبد غیرک((3)).

ص: 93


1- وسائل الشیعة 18: 135 ب(7) من أبواب الربا ح1.
2- وسائل الشیعة 18: 135 ب(7) من أبواب الربا ح2.
3- وسائل 18: 135 ب (7) من أبواب الربا ح3.

4_ الصدوق قال: قال الصادق(علیه السلام): لیس بین المسلم وبین الذمی ربا ولا بین المرأة وبین زوجها ربا((1)).

5_ وقال(علیه السلام): لیس بین الرجل وبین ولده ربا، ولیس بین السید وبین عبده ربا((2)).

6_ الصدوق بسنده عن علی بن جعفر أنه سأل أخاه موسی بن جعفر(علیه السلام) عن رجل أعطی عبده عشرة دراهم علی أن یؤدی العبد کل شهر عشرة دراهم أیحل ذلک؟ قال لا بأس((3)).

کما رواها الشیخ الطوسی1 فی التهذیب بسنده عن محمد بن یحیی، عن بنان بن محمد عن موسی عن القاسم عن علی بن جعفر((4)).

وهذه الروایات الواردة فی نفی الربا ضعیفة السند عدا الأخیرة، أما الأولی ففیها عدة أشخاص مجهولون لم یرد فیهم توثیق، وهکذا الثانیة ولو لم یوجد فیهما سوی عمرو بن الجمیع لکفی بهما توهیناً؛ إذ هو ممن عده علماء الرجال _ کالشیخ الطوسی والنجاشی _ من الضعفاء، وکذلک الثالثة؛ إذ فیها یاسین الضریر وهو مجهول الحال، مع أنها أثبتت الربا بین المسلم والمشرک مع أن مال المشرک الحربی مباح للمسلم بلا ریب، إلا أن یکون صدر ذلک تقیة أو لأمر لا نعلمه، والرابعة والخامسة مرسلتان.

ص: 94


1- من لا یحضره الفقیه 3: 204 ب (87) فی الربا ح12.
2- من لا یحضره الفقیه 3: 203 ب (87) فی الربا ح11.
3- من لا یحضره الفقیه 3: 206 ب (87) فی الربا ح26.
4- تهذیب الأحکام 7: 30 ب (3) فی بیع المضمون ح17.

وأما الأخیرة فلیس فی سند الشیخ من یخدش سوی بنان بن محمد، وهو عبد الله بن محمد بن عیسی((1))، وقد وثقه سیدنا الأعظم(دام ظله) علی مبناه لوجود اسمه فی إسناد کامل الزیارات، کما وثقه آخرون لروایة محمد بن یحیی العطار الجلیل دون توقف فیه، إلا أننا لا نری صحة کلا المبنیین فی التواثیق، فلم تثبت وثاقة الرجل.

وأما سند الشیخ الصدوق إلی علی بن جعفر فله طریقان:

الأول: عن أبیه عن محمد بن یحیی العطار عن العمرکی بن علی البوفکی عن علی بن جعفر.

الثانی: محمد بن الحسن بن أحمد بن الولید عن محمد بن الحسن الصفار، وسعد بن عبد الله جمیعاً عن أحمد بن الحسن بن عیسی والفضل بن عامر عن موسی بن القاسم البجلی عن علی بن جعفر.

والطریق الأول صحیح وکذلک الطریق الثانی إذ هو وإن جهل فیه الفضل بن عامر حیث لم یرد فیه توثیق إلا أنه لاشتراکه مع أحمد بن محمد بن عیسی فی الروایة عن موسی بن القاسم البجلی فلا یقدح فی صحته.

إذن فالروایة صحیحة السند إلا أنها واردة فی خصوص ما یعطیه السید للعبد، وهو لا یعنی حلیة الربا؛ إذ قد لا یقال بملکیة العبد مقابل مولاه، فهی غیر ظاهرة فی الربا لقوة احتمال أن یکون الإعطاء بغرض آخر کالتجارة مثلاً؛ إذ لا ظهور لکلمة (الإعطاء) فی التملیک إذا کان الآخذ مثل الزوجة والعبد والولد.

ص: 95


1- معجم رجال الحدیث 4: 273 فی ترجمة بنان رقم (1895).

وأما الروایات السابقة فمع ضعفها، یمکن الاعتماد علیها إذا ثبت اعتماد الفقهاء علیها بناء علی کون عمل المشهور من الفقهاء جابراً لضعفها، ولکنا لا نقول به، إلا أن کثرتها قد تفید اطمئناناً لدی البعض بصدور مضمونها بدرجة قد تصل إلی الجزم بتواتر هذا المضمون إجمالاً، وإن کانت ضعیفة السند آحاداً، وعلیه فلا بد لمن یتحقق لدیه مثل هذا الجزم القول بمضمونها والعمل بمقتضاها.

إلا أن هذا العلم الإجمالی بالصدور _ لو تحقق _ مُنحلٌ حکماً فی بعض موارده حیث یعلم بجواز أخذ الأب من مال ولده حین الضرورة، وهکذا یجوز أخذ المسلم من الکافر الحربی بعنوان استنقاذ ما تحت یده لإباحته لکل مسلم بأی طریقة کانت لا من أجل الربا فیهما، وهکذا العبد فهو إما لا یقال بتملکه أو أنه یملک ما أراد له المولی تملکه، ویبقی الأمر ما بین الزوجین فلا دلیل علی حلیة الربا بینهما.

وأما الکافر الذمی الملتزم بشرائط الذمیة فقد أفتی جل أساتذتنا ومنهم سیدنا الأعظم(دام ظله) بإمکان أخذ الربا منه بمقتضی قاعدة الإلزام، قال(دام ظله) فی المنهاج:

(الأظهر عدم جواز الربا بین المسلم والذمی، لکنه بعد وقوع المعاملة یجوز أخذ الربا منه من جهة قاعدة الإلزام)((1)).

إلا أن قاعدة الإلزام لا یتم القول بجریانها فی المقام؛ إذ هو مشکل جداً؛ لأن القدر المسلَّم من مواردها:

ص: 96


1- منهاج الصالحین للسید الخوئی 2: 54 الفصل التاسع من کتاب التجارة، مسألة 219.

1_ أن یعتقد شخص ممن لا یری مذهب الحق _ سواء أکان یعتقد بأحد مذاهب الإسلام الأخری أم لا یدین بالإسلام _ أن ما بیده من المال لیس له وإنما لمن یعتقد الحق حسب ما تقتضیه أحکام مذهبه، فیجوز لهذا أخذه وإن کان لا یتفق مع أحکام مذهب الحق.

2_ أن تطلَّق امرأة ما طلاقاً صحیحاً علی مذهب مطلقها فبإمکان معتقد الحق أن یتزوجها وإن کان طلاقها باطلاً وفق مذهب أهل البیت: لما ورد من الروایات المتکاثرة فیه.

3_ فی موارد الضمانات حیث یصح تسلُّم ما ضمنه شخص یعتقده الحق علی وفق مذهبه وأن لم یکن جاریاً وفق مذهب أهل البیت(علیه السلام).

هذه هی الموارد التی ذکرت لقاعدة الإلزام فی الروایات، أما أن یقع عقد آخر غیر صحیح علی مذهب أهل البیت: ثم یجوز لی العمل بمقتضاه لقاعدة الإلزام وصحة جریانه وفق رأی الطرف الآخر فهذا ما لم یرد به دلیل علی عمومه.

نعم، اسُتدل لهذه القاعدة بما رواه:

1_ الصدوق بسنده عن الرضا(علیه السلام) قال: من کان یدین بدین قوم لزمته أحکامهم((1)). ورواه الشیخ الصدوق1 فی الفقیه مرسلاً.

2_ الصدوق عن أبیه عن الحسین بن أحمد المالکی عن عبد الله بن طاووس قال: قلت لأبی الحسن الرضا(علیه السلام): إن لی ابن أخ زوجته ابنتی وهو

ص: 97


1- من لا یحضره الفقیه 3: 295 ب (124) ح6، وسائل الشیعة 22: 75 ب (30) من أبواب الطلاق ح10.

یشرب الشراب ویکثر ذکر الطلاق فقال: إن کان من إخوانک فلا شیء علیه، وإن کان من هؤلاء فأبنها منه فإنه عنی الفراق، قال: قلت: ألیس قد روی عن أبی عبد الله(علیه السلام) أنه قال: إیاکم والمطلقات ثلاثاً فی مجلس فإنهن ذوات الأزواج؟ فقال: ذلک من إخوانکم لا من هؤلاء، إنه من دان بدین قوم لزمته أحکامهم((1)).

3_ عبد الله بن جبلة عن غیر واحد عن علی بن أبی حمزة أنه سأل أبا الحسن(علیه السلام) عن المطلقة علی غیر السنة أیتزوجها الرجل؟ فقال ألزموهم من ذلک ما ألزموه أنفسهم وتزوجوهن فلا بأس بذلک((2)).

4_ جعفر بن سماعة أنه: سئل عن امرأة طلقت علی غیر السنة ألی أن أتزوجها؟ قال: نعم، قلت له: ألست تعلم أن علی بن حنظلة روی: إیاکم والمطلقات ثلاثاً علی غیر السنة فإنهن ذوات أزواج؟ فقال: یابنی روایة علی بن أبی حمزة أوسع علی الناس، روی عن أبی الحسن(علیه السلام) أنه قال: الزموهم من ذلک ما ألزموه أنفسهم وتزوجوهن فلا بأس بذلک((3)).

وواضح أن مورد هذه الروایات هو الطلاق خاصة، ولا یمکن التعدی إلی غیره إذ لیس فی الروایات دلالة علی العموم، مع أن معظمها ضعیفة السند، ففی الأولی یوجد جعفر بن محمد الأشعری وأبوه وهما مجهولان، وفی الثانیة یوجد

ص: 98


1- وسائل الشیعة 22: 75 ب (30) من أبواب الطلاق ح11.
2- وسائل الشیعة 22: 75 ب (30) من أبواب الطلاق ح5.
3- وسائل 22: 73 ب (30) من أبواب الطلاق ح6.

الحسین بن أحمد المالکی وعبد الله بن طاووس وهما مجهولان أیضاً، أما الثالثة فهی مرسلة، ومثلها الرابعة مع أنها فی الوقت نفسه مضمرة.

هذا، ولو استفیدت قاعدة الإلزام من الروایة الثانیة «لزمته أحکامهم» لوجب الاقتصار فیها حیث تکون فیها مصلحة لمن علی مذهب الحق وضرر علی المعاند، وتصحیح عملیة الربا بینه وبین من علی مذهب الحق لا یصاحب دائماً مصلحة لمن علی مذهب الحق وضرراً علیه؛ لأن إعطاء الربا لا یقتضی الضرر دائماً ولا سیما حین یرید المعطی تحقیق غایات أخری وراء هذه العملیة کما یلاحظ هذا فی المصارف والبنوک ولا سیما الأجنبیة.

وبالجملة لا عموم للقاعدة، ولو سلم فما یمکن الالتزام به إنما هو فی موردٍ لا یکون هناک حکم مانع من إجرائها کما فی الأمثلة السابقة فی المواریث والطلاق والحلف، أما حیث یوجد نهی عن ارتکاب المورد فلا یقال بصلاحیة هذه القاعدة لتجاوز الحدود الشرعیة، فمع فرض اکتفاء بعض الأدیان أو المذاهب بالمعاطاة فی الزواج لا یعنی صحة تزوج المؤمن بامرأة من ذلک الدین بالمعاطاة بقاعدة الإلزام.

وکیف کان لا دلالة فی الروایات السابقة علی عموم قاعدة الإلزام.

نعم، هنا روایة وردت فی مباحث الحلف والیَمین رواها الشیخ1 بسنده الصحیح عن محمد بن مسلم عن أحدهما(علیه السلام) قال سألته عن الأحکام فقال: فی کل دین ما یستحلفون (یستحلون) به((1)).

ص: 99


1- وسائل الشیعة 23: 267 ب (32) من أبواب کتاب الأیمان ح7.

إذ فی هذه الروایة نسختان إحداهما یستحلفون والأخری یستحلون فلو قیل بأن هذه هی نسخة الأصل الصحیحة کان معناها التصریح باستحلال ما فی کل دین لمعتنقیه فهی من أدلة قاعدة الإلزام ولکن یرد علیها:

أولاً: أنها واردة فی بعض النسخ دون البعض الآخر؛ إذ فیها یستحلفون من الحلف، ویؤید هذه النسخة:

أ_ روایة الشیخ1 لها فی مباحث الحلف والیمین((1)).

ب _ أن الشیخ1 رواها أیضاً فی کتاب الاستبصار((2)) بلفظ یستحلفون لا یتسحلون.

وثانیاً: _ مع التنزل _ فإن الاستحلال بعمومه مما لا یمکن الالتزام به کما هو واضح.

إذن فقاعدة الإلزام لم تصح إلا فیما ذکرنا من الموارد فقط، وإن حاول البعض تعمیمها.

وینبغی الإلفات أیضاً إلی أن عبارة المنهاج السابقة تدل علی جواز استلام الربا من الذمی حیث یری نفسه ملزماً بدفع هذا الربا للمسلم، وهو إنما یتم فی ربا القرض لا المعاوضة؛ إذ فیه یمتاز الربا عن غیره کما عرفنا.

ولم یتعرض السید إلی الحکم الوضعی وقاعدة الإلزام فیه مع أن ذلک مما ینبغی.

***

ص: 100


1- تهذیب الأحکام 8: 255 ب (4) الأیمان والأقسام ح9.
2- الاستبصار 4: 58 ب (22) فیما یجوز أن یحلف أهل الذمة ح6.

مجهول المالک

اشتهر بین الأعلام أن مجهول المالک مما یحتاج التصرف فیه إلی إذن الإمام أو الفقیه الجامع لشرائط الفتوی، والالتزام بهذا القید لا دلیل واضحاً علیه، وما ذکر له من الأدلة یمکن المناقشة فیها:

الدلیل الأول: الإجماع، وقد أدعی قیامه علی أن التصرف فی مجهول المالک یحتاج إلی إذن الحاکم الشرعی، إلا أن تعقل هذا الإجماع بالنحو الذی یکون حجة شرعیة بمعنی کاشفیته عن رأی المعصوم(علیه السلام) صعب جداً.

الدلیل الثانی: ما رواه فی الکافی عن محمد بن یحیی عن محمد بن أحمد عن موسی بن عمر عن الحجال عن داود بن أبی یزید عن أبی عبد الله(علیه السلام) قال: قال رجل: إنی قد أصبت مالاً وإنی قد خفت فیه علی نفسی فلو أصبت صاحبه دفعته إلیه وتخلصت منه، قال: فقال له أبو عبد الله(علیه السلام): والله أن لو أصبته کنت تدفعه إلیه؟ قال: أی والله، قال: فأنا والله ما له صاحب غیری، قال: فاستحلفه أن یدفعه إلی من یأمره، قال: فحلف، قال: فاذهب فاقسمه فی إخوانک ولک الأمن مما خفت منه، قال فقسَّمته بین إخوانی((1)).

والاستدلال بهذه الروایة إنما یتم بناءً علی أن المراد بقوله: (والله ما له صاحب غیری) أنه مجهول المالک ولا ولایة لأحد سوی الإمام(علیه السلام) علیه.

ص: 101


1- الکافی 5: 140 ب (49) اللقطة والضالة ح7.

ولکن أنی یمکن تعیین هذا الاحتمال وحده لیصح الاستدلال بها؛ إذ هنا احتمالات أخری ترد أیضاً:

منها: أن المال الملتقط یحتمل أن یکون مال الإمام(علیه السلام) نفسه وأجاز الملتقط بالتصدق به.

ومنها: أن الولایة المومأ إلیها فی الروایة تختص بالمال الملتقط ولیس بکلّ مجهول المالک، مع أن جریان الحکم فی اللقطة ذاتها مما لا بد من طرحه لمعارضته لأدلة أخری توجب توجیهات أخری فی هذا الحکم، ولا سیما أن الروایة ضعیفة بموسی بن عمر إذ هو مشترک بین الثقة والمجهول.

والذی ینبغی أن یقال: إن هناک احتمالات عدة ترد فی مجهول المالک:

1_ الإبقاء علی المال أمانة بید من وقع لدیه، وهذا مردود لعدم وجود من قال به؛ إذ الفرض إنما هو مع الیأس من الوصول إلی صاحبه، ولزوم الحرج وتعریض المال المحترم للضیاع والتلف.

2_ التملک المجانی للمال مع العزم علی دفع البدل لصاحبه لو عرفه.

3_ التصدق به علی من یتسحق الصدقة سواء أکان المستحق هو نفس الشخص الذی کان المال بیده، _ فیتملکه بعنوان الصدقة _ أم غیره، وفی الحالین تکون الصدقة من دون مراجعة الحاکم الشرعی ولکن مع العزم علی الغرامة لو عرف صاحب المال ولم یرض بالصدقة کما یظهر من مصحح یونس المؤید بخبر علی بن أبی راشد الآتیین.

4_ التصدق به کذلک ولکن مع الإذن من الحاکم الشرعی.

ص: 102

ولا ریب أن هذا الاحتمال هو أحوط الجمیع ولا سیما مع تأیید خبر داود المتقدم، والشهرة المتحققة وإن لم یتم الإجماع السابق، إذن فلا بد من الإذن فی التصرف فی المال المجهول المالک لتحقیق الیقین بالبراءة.

ولکن مع سقوط الخبر المتقدم عن النهوض فی استیعاب مدلوله لکافة صور مجهول المالک؛ لوروده فی خصوص اللقطة _ کما عرفنا _ وقصور سنده عن الاعتبار، لا یکون فیه أدنی تأیید لهذا الاحتمال، ولا سیما مع ملاحظة جریان أصالة البراءة عن هذا الشرط.

ولکن هذا لا یمنع من التساؤل عن حلیة المال والتصرف فیه لمن وقع بیده المال وهو یعلم أنه لیس له، وله مالک فلا بد من الرجوع إلیه، والمفروض أنه یجهله، فلا مناص من الرجوع إلی ولیِّه فیه، وهو الحاکم الشرعی الجامع للشرائط المعتبرة، ومن دونهما یجب علیه التحفظ علیه ما لم یخف علیه من التلف، وفی هذه الحالة قیل بالتصدق به عن صاحبه، واُدعی تسالم الأصحاب علیه، ولکن هذه الدعوی لا تخلو من مجازفة دون الرجوع إلی الحاکم الشرعی.

ومع ذلک لا یمکن الغض عن الأدلة التی وردت فی جواز التصدق بمجهول المالک مطلقاً من دون حاجة إلی الولی الشرعی کما فی:

مصحح یونس بن عبد الرحمن قال: سئل أبو الحسن الرضا(علیه السلام) وأنا حاضر _ إلی أن قال:

_ فقال: رفیق کان لنا بمکة فرحل منها إلی منزله ورحلنا إلی منازلنا، فلما أن صرنا فی الطریق أصبنا بعض متاعه معنا فأی شیء نصنع به؟ قال: تحملونه حتی تحملوه إلی الکوفة، قال: لسنا نعرفه ولا نعرف بلده ولا نعرف کیف نصنع؟

ص: 103

قال: إذا کان کذا فبعه وتصدق بثمنه، قال له: علی من جعلت فداک؟ قال: علی أهل الولایة((1)).

وحَمْلُ الأمر هنا بالصدقة علی الإذن الخاص من الإمام(علیه السلام) بعید، إذ الظاهر أن السؤال عن الحکم الشرعی.

ویؤید هذا الحکم أیضاً بخبر أبی علی بن راشد، قال: سألت أبا الحسن(علیه السلام) قلت جعلت فداک: اشتریت أرضاً إلی جنب ضیعتی بألفی درهم فلما وفیت المال خبرت أن الأرض وقف، فقال: لا یجوز شراء الوقف ولا تدخل الغلة فی مالک وادفعها إلی من وقفت علیه، قلت: لا أعرف لها ربَّاً قال: تصدق بغلتها((2)).

کما یمکن تأییده بروایة حفص بن غیاث قال: سألت أبا عبد الله(علیه السلام) عن رجل من المسلمین، أودعه رجل من اللصوص دراهم أو متاعاً واللص مسلم، هل یردّ علیه؟ فقال أبو عبد الله(علیه السلام): لا یردّه فإن أمکنه أن یردّه علی أصحابه فعل، وإلا کان فی یده بمنزلة اللقطة یصیبها فیعرفها حولاً فإن أصاب صاحبها ردّها علیه، وإلا تصدق بها.. إلخ((3)).

إذن فللجمع بین الأدلة یمکن القول: بأن التصدق بمجهول المالک هو المتعین، والاحتیاط الاستحبابی فیه یقتضی استئذان الحاکم الشرعی.

أما التملک المجانی لا بعنوان استلامه کصدقة لمن یستحقه فلم یرد فیه سوی ما یحتمل من:

ص: 104


1- وسائل الشیعة 25: 450 ب (7) من أبواب اللقطة ح2.
2- وسائل الشیعة 17: 364 ب (17) من أبواب عقد البیع وشروطه ح1.
3- وسائل الشیعة 25: 463 ب (18) من أبواب اللقطة ح1.

خبر هشام بن سالم قال: سأل خطاب الأعور أبا إبراهیم(علیه السلام) _ وأنا جالس _ فقال: إنه کان عند أبی أجیر یعمل عنده بالأجرة ففقدناه وبقی من أجره شیء ولا نعرف له وارثاً، قال: فاطلبوه، قال: قد طلبناه فلم نجده، قال: فقال: مساکین _ وحرّک یدیه _ قال: فأعاد علیه، قال: أطلب واجهد فإن قدرت علیه وإلا فهو فکسبیل مالک، حتی یجیء له طالب فإن حدث بک حدث فأوصِِ به: إن جاء له طالب أن یدفع إلیه((1)).

واستفادة التملک تتأتی من محکی قول الإمام(علیه السلام) فیها «فهو کسبیل مالک»، وما یشکل علیه بأن مورد الروایة الدین ولا یتعدی منه إلی ما سواه لا یلتفت إلیه؛ لأن السؤال کان عن مال خلفه الأجیر ممتازاً عن بقیة أموال أبیه ولیس عن اقتراض من الأجیر، ولا سیما مع قوله: (طلبناه فلم نجده)، إلا أن الروایة ضعیفة السند ولا یؤخذ بها، ویرد علیه کذلک:

1_ أن محکی قوله(علیه السلام) فیها: «فهو کسبیل مالک..الخ» یقتضی المطالبة بالتحفظ علی المال کما یتحفظ علی بقیة أمواله بقرینة قوله بعد ذلک: «فإن حدث بک حدث فأوصِِ به: إن جاء له طالب أن یدفع إلیه»؛ إذ الأمر بالإعطاء وارد علی نفس المال دون ضمان مثله أو قیمته الذی یقتضیه الخلط بالمال الشخصی.

ص: 105


1- وسائل الشیعة 26: 296 ب (6) من کتاب الفرائض والمواریث ح1، الکافی 7: 153 ب (49) میراث المفقود ح1.

2_ ومع التنزل عن هذا فإن حملها علی الإذن الخاص ممکن، فلم ترد لبیان الحکم الشرعی المطلق؛ لأن الإمام(علیه السلام) وارث من لا وارث له.

***

ص: 106

ملکیة الدولة

هل الدولة _ بمختلف أنواعها _ تملک أم لا تملک؟ هذا السؤال لیس جدیداً فی الفقه، و نتائجه محل ابتلاء کافة الناس بمختلف طبقاتهم، فلا بد أن یکون للفقیه نظر فیه؛ إذ تتوقف علیه معظم المعاملات، وما لم یوضع فیه المکلفون فی طریق واضح وقعوا فی الحرج والمشقة الشدیدین.

والحدیث فی هذه المسألة یجری فی مرحلتین، إذ لابد_ أولاً_ من تحریر موقع الملکیة ثم معرفة الحکم بالملکیة وعدمها؛ أما المرحلة الأولی: فلا بد من القول فی البدایة: إن الکلام هنا لیس فی تقویم الدعاوی السلطویة وتمحیص الصائب منها وغیره وإنما هو _ کما قلنا فی مقدمة الحدیث _ فی دراسة الواقع التعاملی وعرضه علی الموازین الشرعیة لتصحیح الصحیح منه والفاسد منه؛ لیکون المکلف المبتلی علی بینة من أمره حین تستدعی الظروف منه التعامل مع هذا الواقع، ولهذا فإن ملکیة الدولة وعدمها لا یختص بنوع أو عدد من الدول بل هو عام یشمل کافة ما لهذه القضیة من مصادیق.

ویمکن تمییز الدول بخطین رئیسین من حیث الملکیة ودعواها:

ص: 107

الخط الأول: هناک من المتسلطین من یری له الملکیة المطلقة لما تحت یده من أراض وأموال وعقارات ومعادن وغیرها، وتعترف الرعیة له _ طوعاً أو کرهاً _ بهذه الدعوی وتصدقها حتی تجریها بینها مجری المسلمات. وطبیعی أن یخرج هذا القسم عن محل النزاع؛ إذ بعد الادعاء من المتسلط والإقرار من الرعیة لا یبقی هنا مجال للشک فی الملکیة حیث لا یعلم من السلطان تجاوزاً علی حق الآخرین أو ظلماً لهم، وإلا فلا بد من إرجاع کل حقٍ لصاحبه إن علم، وإلا اعتبر مجهول المالک، وهذا خارج عما نحن فیه؛ إذ الحدیث فی أصل الملکیة وهی فی الفرض ثابتة، وترجع الأملاک بعد السلطان إلی ورثته الشرعیین أو من یملک المنصب بعده.

إلا أن مثل هذا النوع من الدعاوی لا یکاد له وجود فی العالم المعاصر مع خروجه عن البحث.

الخط الثانی: أن لا یبدو من رأس السلطة فی البلد مثل هذا النوع من الدعاوی بل هو _ سواء کان شخصاً أو هیئة تتکون من عدة أشخاص _ یتصرف فیما تحت یده من ممتلکات دون أن یعتبرها ملکاً شخصیاً صرفاً، بل کل ما فی الأمر أنه یری أن من حقه التصرف والأخذ والعطاء کیفما یشاء أو ضمن حدود یقیده بها القانون الجاری فی الدولة، وهذا النوع هو الغالب فی صور الدول المعاصرة کافة، وفی مثلها لا بد من تشخیص موقع الملکیة إذ هنا مواقع عدیدة تتصور لها:

ص: 108

1_ الشعب: والمراد منه _ بمناسبة الحکم والموضوع _ الکلی الطبیعی العام الذی یمکن تطبیقه علی کل فرد تتوفر فیه شرائط المواطنة والمقتضیات القانونیة لها سواء أکان توفرها بالفعل أم فیما سبق أم فیما یأتی من دون تحدید فی جیل أو صنف أو غیر ذلک.

2 _ القانون: ویُعنی به هنا هو ذات النظام المطرد فی الدولة والقائم علی نظریة معینة فی العلاقات الاجتماعیة والاقتصادیة والسیاسیة.

3 _ الجهاز الحکومی: والمقصود منه تلک الفئة المعینة من موظفی الدولة الذین أنیطت بهم مسؤولیة تطبیق القانون وبلورة النظام علی الصعید الفعلی الواقعی.

4 _ رأس النظام: وهو ذلک المنصب الذی یتسنم جهاز الدولة، وإلیه تنتهی کافة المسؤولیات القانونیة الفرعیة فی التطبیق.

ویختلف الأساس الاعتباری لهذا المنصب إذ قد یعتبر من جهة:

أ_ الولایة الاختیاریة لذات الشعب بارتضائه لشخص معین أو فئة معینة له.

ب _ الفرض القهری من قبل المتسلط نفسه أو من قبل آخرین لجمع خطوط تلک المسؤولیات.

ج _ الجعل الإلهی لشخص معین کما هو الملاحظ فی ولایة الرسول والمنتجبین من الأوصیاء.

وعند تمحیص هذه المواقع نستطیع القول: إن دعوی مالکیة الدولة لا یمکن تطبیقها علی ذات القانون إذ هو _ کما قلنا_ لا یعنی أکثر من الطریقة التی تنتظم

ص: 109

فیها شؤون الناس فی هذا البلد أو ذاک وعلی أساسها یتعاملون فی مجالات حیاتهم المختلفة، ومثل هذا المعنی لا تتصور مالکیته لشیء من الأشیاء؛ إذ لا معنی لأن یقال: إن هذه الطریقة تملک کذا من الأموال وإن هذا المنهج یملک کذا من الأراضی والعقار.

نعم قد یقال: إن هذا النظام أو القانون هو الذی یحکم البلد الفلانی، إلا أن مثل هذا الإطلاق مجازی کما هو واضح؛ إذ المقصود منه أن رأس الحکم فیه أو جهازه الوظیفی یتبع مثل هذا النظام أو ذلک القانون ویطبقه فی سیاسته مع الرعیة.

کذلک لا معنی للقول بملکیة الجهاز الحکومی، بما هو فئة مسؤولة عن تنفیذ القانون وإجراء النظام؛ إذ هذه الحیثیة وظیفیة صرفة کما هو واضح.

فیبقی کل من الموقعین الأول وهو الشعب والرابع وهو رأس النظام بما هو منصب قابلاً لدعوی ملکیة الدولة، وإن کان الأرجح هو ملکیة رأس النظام بقید المنصب لا الشخص، ومعنی هذا القید أن المنصب یدخل فی مفهوم المالک بنحو الحیثیة التقییدیة بینما یدخل شخص الرئیس بنحو الحیثیة التعلیلیة؛ إذ لیس من حق هذا الشخص التملک والتصرف فی مملوکات الدولة بعد العزل أو التنازل أو حصول أی عارض جانبه هذا المنصب، کما لا تعود مملوکات الدولة إلی ورثته حین یموت وهو فی السلطة بل الأمر یعود فی الحالتین إلی من یستلم المنصب بعده.

ص: 110

ولعل هذا هو الوجه فی ملکیة الإمام(علیه السلام) لسهمه من الخمس؛ إذ منصب الإمامة هو المالک لهذا السهم ولیس شخص الإمام(علیه السلام)؛ ولهذا فإن ما یترکه(علیه السلام) من هذا السهم لا یعود إلی ورثته بل إلی الإمام الذی یلیه.

إذن فملکیة الدولة تتعین فی المنصب الأعلی فیها، حیث یتسلط علی ما تحت یده من أموال لا تخص أفراداً أو جهات معینة یعلم بملکیتها لها؛ إذ فی مثل هذه الحال لابد من إرجاعها إلیها مع الإمکان، وإلا أُجری علیها حکم مجهول المالک بالحکم بالملکیة أو عدمها_ کما سبق _.

*** المرحلة الثانیة:

اختلف الفقهاء فی ملکیة الدولة فهل الدولة تملک أو لا؟ فبناء علی ملکیتها تعتبر کافة تصرفاتها مشروعة، ویمکن الاعتماد علی تلک التصرفات وتصحیح نتائجها، وأما مع البناء علی عدم الملکیة فیقال بالفضول فی جمیع تلک المعاملات واعتبارها فی البلاد الإسلامیة من التصرف فی الأحوال مجهولة المالک، والتصرفات هذه مما یحتاج لتصحیحها إلی إذن الحاکم الشرعی، وقد ذهب إلی کل من الرأیین فریق.

ولمعرفة الحکم لابد من عرض ما یقدم من أدلة فی هذا المجال، ومناقشة ما یحتاج إلی المناقشة لیتضح الحال.

ص: 111

وقد استدل من قال بعدم الملکیة بأمور:

منها: أن الملکیة لا بد فیها من مالک، والنظام لا تعقل مالکیته؛ لأنه یجری مجری الجماد، وأما شخص السلطان فلأنه لم یدّع الملکیة ولم تعترف الرعیة له بها فلا یمکن القول بملکیته؛ ولهذا لا ینتقل ما تحت یده من أموال إلی ورثته.

وفیه: أن المالک لا یشترط فیه العقل والقدرة علی التصرف بنفسه والانتفاع بالمال بشخصه، وإلا لزم إلغاء ملکیة الصغار والمجانین والحمل عند من یملّک الحمل _ کما هو المشهور _ کما یلزم عدم ملکیة الموقوف علیه الخاص إذا کان عاجزاً عن الاستقلال بالتصرف کالمشاهد المقدسة وعزاء سید الشهداء(علیه السلام) وشبههما، مع أن المشهور هو ملکیة هذا النوع من الموقوف علیه إذا کان خاصاً.

بل ولو اشترطنا القدرة علی التصرف بالمعنی المتقدم لأشکل القول بملکیة المسلمین لمثل الأراضی المفتوحة عنوة والتی هی ملک لطبیعی المسلم إذ هذا الطبیعی بما هو کلی لا یتحقق فی الخارج.

ومما سبق عرفنا أن المالک _ لو قیل بملکیة الدولة _ هو منصب السلطان لا شخصه؛ ولهذا فإن عدم ادعائه للملکیة بل ودعواه بعدم الملکیة لا یقدح فی أنه مالک له باعتبار منصبه، کما لا یمنع تسنم الشخص لمنصب الرئاسة فی السلطة أن تکون له أملاکه الشخصیة التی یتساوی فیها مع الآخرین قانونیا، ویحکم بما یحکمون به من أصول ونتائج.

ومنها: أن الملکیة _ سواء اعتبرت إضافة مقولیة حقیقیة أم إضافة اعتباریة لا وجود لها وراء الاعتبار العقلائی _ لابد لها من مقتضٍ، ومجرد السیطرة الخارجیة لا

ص: 112

یقتضیها ما لم تکن هذه السیطرة ناشئة من سبب حقیقی أو اعتباری للملکیة کما هو واضح، وسلطة الدولة فی أی من مواقعها لا تحکی أکثر من هذه السیطرة من دون تحقق الملکیة أو مقتضیها.

ویرد علیه: أن فرض الکلام هنا منحصر فی الأموال التی لا بد لها من مالک، وفی مثل هذه الأموال تکفی السیطرة فی إقرار الملکیة، واعتبار العقلاء کافٍ فی ملکیة الدولة لمثل هذه الأموال بمجرد سیطرتها علیها بطریقة مشروعة لدیهم ما لم یرفض الشارع الاعتراف بالملکیة الذی یمکن إحرازه بالأصل مع عدم وجدان دلیل علیه.

نعم لو کانت هذه الأموال من المباحات الأصلیة العامة وما یتولد منها لم یکف فی اعتبارها مملوکة مجرد السیطرة علیها من دون مقتضی للتملک سواء أکان هذا من قبل الأفراد أم الدولة.

کذلک لو کانت الأموال مملوکة لآخرین ممن یعترف القانون لهم بالتملک فإن هذه الأموال لهم ولم یکفِ تسلط الآخرین لانتقال هذه الملکیة عنهم من دون مقتضٍ لهذا الانتقال، إلا أن المقصود فی المال الذی تتملکه الدولة هو غیر هذین النوعین بل هو خصوص ما ذکرناه أولاً.

ومنها: أن اعتبار العقلاء لملکیة ذی السلطة لو فرض تحققه فإن هذا الاعتبار منهم وحده غیر کافٍ ما لم یُمضَ من الشارع، ویکفی عدم إحراز الإمضاء الشرعی لسقوط هذا الاعتبار، مع وجود أدلة یستفاد منها عدم الاعتبار الشرعی

ص: 113

لملکیته، کتلک الروایات التی تنهی عن دفع الخراج والواجب من الصدقات بل مطلق الأموال إلیه مع عدم العدالة، فمنها ما رواه:

1_ العیص بن القاسم عن أبی عبد الله(علیه السلام) فی الزکاة: ما أخذوا منکم بنو أمیة فاحتسبوا به، ولا تعطوهم شیئاً ما استطعتم، فإن المال لا یبقی علی هذا أن تزکیه مرتین((1)).

2_ زرارة قال: اشتری ضریس بن عبد الملک وأخوه من هبیرة أرزاً بثلاث مائة ألف قال فقلت له: ویلک أو ویحک انظر إلی خمس هذا المال فابعث به إلیه واحتبس الباقی، فأبی علیّ قال: فأدی المال، وقدم هؤلاء، فذهب أمر بنی أمیة قال: فقلت ذلک لأبی عبد الله(علیه السلام) فقال مبادراً للجواب هُوَ له هو له، فقلت له: إنه قد أداها فعض علی إصبعه((2)).

3_ إبراهیم بن أبی محمود عن علی بن یقطین، قال: قلت لأبی الحسن(علیه السلام): ما تقول فی أعمال هؤلاء؟ قال: إن کنت لا بد فاعلاً فاتقِ أموال الشیعة، قال: فأخبرنی علی أنه کان یجبیها من الشیعة علانیة ویردها علیهم فی السر((3)).

4_ محمد بن القاسم بن الفضیل قال سألت أبا الحسن الأول(علیه السلام) عن رجل اشتری من امرأة من آل فلان بعض قطائعهم وکتب علیها کتاباً بأنها قد قبضت المال ولم تقبضه، فیعطیها المال أم یمنعها؟ قال قل له لیمنعها أشد المنع فإنها باعته ما لم تملکه((4)).

ص: 114


1- وسائل الشیعة 9: 252 ب (20) من أبواب مستحق الزکاة ج3.
2- وسائل الشیعة 17: 218 ب (52) من أبواب ما یکتسب به ج2.
3- وسائل الشیعة 17: 193 ب (46) من أبواب ما یکتسب به ح8.
4- وسائل الشیعة 17: 333 ب (1) من أبواب عقد البیع وشروطه، ح2.

ولکن الإنصاف أنه یمکن القول: إن هذه الروایات وشبهها أجنبیة عما نحن فیه، ولا یتعین المدّعی فیها؛ إذ إن ما دل علی منع الزکاة کروایة العیص ورد المنع فیها؛ لأن الواجب علی المکلف هو إیصال الحق إلی مستحقیه، وتسلیمه إلی السلطان الجائر تضییع لهذا الحق، مضافا إلی أن الکلام هنا فیما هو تحت ید سلطة الدولة مع عدم العلم بوجود مالک معروف له، وصنف المستحق هنا هو المالک للحق الواجب، فهو أجنبی عن موضع الکلام إذ لا بد من تمکین المالک الشرعی له مع الإمکان.

بل یمکن القول بحمل المنع فی مثل هذه الروایات علی الاستحباب لا الوجوب؛ لما دل علی جواز تسلیم الزکاة إلی عمال السلاطین سواء أمکن الامتناع أم لم یمکن من دون التعویض بما یبرئ الذمة عن الحق الواجب. وهذا یلاحظ من صحیحة یعقوب بن شعیب قال: سألت أبا عبد الله(علیه السلام) عن العشور التی تؤخذ من الرجل أیحتسب بها من زکاته؟ قال: نعم إن شاء((1)).

وبمضمونها أخبار أخری، بل إن صدر روایة عیص بن القاسم المتقدمة یقتضی هذا أیضاً.

وأما الروایة الثانیة وشبهها مما یجیز أخذ أموال السلطان الظالم فالظاهر فیها أن هذا الجواب من جهة أنه من أموال الناصب التی یجوز استملاکها بأی وسیلة مع دفع الخمس إلی أهله؛ لأن هبیرة المذکور فی الروایة من عمال بنی أمیة،

ص: 115


1- وسائل الشیعة 9: 251 ب (20) من أبواب المستحقین للزکاة ح1.

وکان یبیع من أرزهم، وهم ممن نصب العداء لأهل البیت(علیه السلام)، أولأن الإمام(علیه السلام) أراد بالحکم بجواز الأخذ بمقتضی ولایته الشرعیة المطلقة لتضییع بعض ما یعین سلاطین الجور علی ظلمهم وطغیانهم.

کما یحتمل کذلک أن ما کان لدی ضریس من أموال لم یکن لمالک معین؛ لأنه کان فی تلک الفترة التی تخللت بین حکم بنی أمیة وحکم بنی العباس، ولهذا استطاع زرارة أن یشیر علیه بالامتناع عن التسلیم، ویؤید هذه الاحتمالات روایات کثیرة _ سیأتی بعضها _ دلت علی صحة شراء ما فی أیدی السلاطین بمضامین مختلفة، ما لم یعلم أن المبیع بعینه یعود إلی شخص محترم المال، وسنذکر کذلک شیئاً مما ورد فی صحة تملّک الجوائز والعطایا منهم.

وأما الروایة الرابعة فهی کذلک أجنبیة عما نحن فیه، إذ المرأة التی باعت الأرض لم تکن هی ذات المنصب الرئاسی وأنها _ من خلال هذه الوظیفة _ باعت ما تحت تصرف المنصب من مال، وإن کانت من بیت متنفذ، بل الذی باعته إنما کانت تدّعی ملکیته الشخصیة لها، وبما أنها ممن نصب العداء لأهل البیت(علیه السلام) فیجوز الاستیلاء علیه بأی وسیلة _ کما عرفنا_، فحکم الإمام(علیه السلام) إنما جاء لتقریر هذا الجواز، أو أن الإمام(علیه السلام) یعلم أن الأرض المشتراة لم تکن ملکها، بل من الأراضی الخراجیة التی لا تباع ولا تشتری.

هذا مضافاً إلی أنه لا یشترط إحراز الإمضاء من الشارع بل یکفی عدم ثبوت رفضه لاعتبار العقلاء الذی یمکن إحرازه ولو بالأصل _ کما أشرنا إلیه _.

إذن فلم یتم دلیل علی نفی الملکیة عن الدولة.

ص: 116

أما القول بالجواز فیمکن الاستدلال علیه بطوائف من الروایات:

الطائفة الأولی: ما دل علی جواز شراء ما فی ید السلطان من الأموال، ونذکر منها ما رواه:

1_ عبد الرحمن بن الحجاج قال: قال لی أبو الحسن موسی(علیه السلام): مالک لا تدخل مع علی فی شراء الطعام إنی لأظنک ضیقاً، قال: قلت: نعم، فإن شئت وسّعت علی، قال: اشتره((1)).

2_ زرارة فی الروایة المتقدمة((2)).

3_ معاویة بن وهب، قال: قلت لأبی عبد الله(علیه السلام): أشتری من العامل الشیء وأنا أعلم أنه یظلم؟ فقال اشتر منه((3)).

4 _ أبو عبیدة عن أبی جعفر(علیه السلام) قال: سألته عن الرجل منا یشتری من السلطان من إبل الصدقة وغنم الصدقة وهو یعلم أنهم یأخذون منهم أکثر من الحق الذی یجب علیهم؟ قال: فقال: ما الإبل إلاّ مثل الحنطة والشعیر وغیر ذلک، لا بأس به حتی تعرف الحرام بعینه. قیل له: فما تری فی مصدق یجیئنا فیأخذ منّا صدقات أغنامنا فنقول بعناها فیبیعناها، فما تقول فی شرائها منه؟ فقال: إن کان قد أخذها وعزلها فلا بأس. قیل له: فما تری فی الحنطة والشعیر یجیئنا القاسم فیقسم لنا حظنا ویأخذ حظه فیعزله بکیل فما تری فی شراء ذلک الطعام منه؟ فقال: إن کان قبضه بکیل وأنتم حضور ذلک فلا بأس بشرائه منه من غیر کیل((4)).

ص: 117


1- وسائل الشیعة 17: 218 ب (52) من أبواب ما یکتسب به ح1.
2- وسائل الشیعة 17: 218 ب (52) من أبواب ما یکتسب به ح2.
3- وسائل الشیعة 17: 219 ب (52) من أبواب ما یکتسب به ح4.
4- وسائل الشیعة 17: 219 ب (52) من أبواب ما یکتسب به ج5.

5_ أحمد بن محمد بن عیسی عن أبیه قال: سئل أبو عبد الله(علیه السلام) عن شراء الخیانة والسرقة؟ قال: إذا عرفت ذلک فلا تشتره إلا من العمال((1)).

وواضح أن نفوذ المعاملة فی کل هذه الروایات وما یشبهها یقتضی ملکیة السلطان البائع وإلا فلا ینفذ منها شیء.

الطائفة الثانیة: ما دل علی جواز شراء غلات السلطان ما لم یعلم بأنها مغصوبة بعینها.

1_ جمیل بن صالح قال: أرادوا بیع تمر عین أبی ابن زیاد فأردت أن أشتریه، فقلت حتی أستأذن أبا عبد الله(علیه السلام)، فأمرت مصادفاً فسأله فقال له: قل له فلیشترهِ، فإنه إن لم یشتره اشتراه غیره((2)).

وفی هذه الطائفة تنتظم روایة إسحاق بن عمار الموثقة((3))، ومضمرة عبد الرحمن بن أبی عبد الله((4)).

الطائفة الثالثة: ما دل علی جواز قبول جوائز السلطان وأکل طعامه ما لم یعلم أنه حرام بعینه، وهی روایات منها ما رواه:

1_ أبو ولاد قال: قلت لأبی عبد الله(علیه السلام): ما تری فی رجل یلی أعمال السلطان لیس له مکسب إلاّ من أعمالهم، وأنا أمر به فأنزل علیه فیضیفنی ویحسن إلی وربما أمر لی بالدرهم والکسوة، وقد ضاق صدری من ذلک، فقال لی: کل وخذ منه فلک المهنا وعلیه الوزر((5)).

ص: 118


1- وسائل الشیعة 17: 220 ب (52) من أبواب ما یکتسب به ح6.
2- وسائل الشیعة 17: 220 ب (53) من أبواب ما یکتسب به ح1.
3- وسائل الشیعة 17: 221 ب (53) من أبواب ما یکتسب به ح2.
4- وسائل الشیعة 17: 221 ب (53) من أبواب ما یکتسب به ح3.
5- وسائل الشیعة 17: 213 ب (51) من أبواب ما یکتسب به ح1.

2_ أبو المغرا قال: سأل رجل أبا عبد الله(علیه السلام) وأنا عنده فقال: أصلحک الله أمر بالعامل فیجیزنی بالدرهم أخذها؟ قال: نعم، قلت وأحجّ بها؟ قال: نعم((1)).

3_ أحمد بن محمد بن عیسی عن أبیه عن أبی جعفر(علیه السلام) قال: لا بأس بجوائز السلطان((2)).

4_ الفضل بن الربیع عن أبی الحسن موسی بن جعفر(علیه السلام) _ فی حدیث _ إن الرشید بعث إلیه بخلع وحملان ومال فقال: لا حاجة لی بالخلع والحملان والمال إذا کان فیه حقوق الأمة، فقلت: ناشدتک الله أن لا ترده فیغتاظ، قال: إعمل به ما أحببت((3)).

وحمل هذه الروایات علی إباحة الأئمة(علیه السلام) للعناوین السابقة جمیعها من جهة ولایتهم العامة بعید جدا، بل یمتنع هذا الحمل فی بعضها حیث وردت فی بیان الحکم الشرعی الإلهی.

إذن فلهذه الطوائف کافة لا مانع من القول بملکیة الدولة لما تحت یدها من الأموال، ما لم یعلم إباحته العامة أو کان مملوکاً للآخرین بنحو ما أشرنا إلیه غیر مرة.

إلا أن هنا ملاحظتین لا بد من الالتفات إلیهما:

الأولی: أن هناک بعض الروایات التی وردت فی التحفظ علی أخذ الصلات من السلطان کما عرفناه فی روایة الفضل بن الربیع السابقة، فهی قبل الحکم بالإباحة تشیر إلی تحرج الإمام(علیه السلام) من قبض ما أرسل إلیه الرشید من المال، ومثلها روایة أخری یرویها عبد الله بن الفضل عن أبیه _ فی حدیث _: أن الرشید أمر بإحضار موسی بن

ص: 119


1- وسائل الشیعة 17: 213 ب (51) من أبواب ما یکتسب به ح2.
2- وسائل الشیعة 17: 218 ب (51) من أبواب ما یکتسب به ح16.
3- وسائل الشیعة 17: 216 ب (51) من أبواب ما یکتسب به ح10.

جعفر(علیه السلام) یوماً فأکرمه وأتی بها بحقة الغالیة ففتحها بیده فغلفه بیده، ثم أمر أن یحمل بین یدیه خلع وبدرتان دنانیر فقال موسی بن جعفر(علیه السلام): والله لولا أنی أری من أزوّجه بها من عزاب بنی أبی طالب لئلا ینقطع نسله ما قبلتها أبداً((1)).

وهکذا روایات أخری.

إلا أن مثل هذه الروایات لا تنفی أصل الملکیة، وجواز التعامل مع الدولة بعنوانه الأوّلی بل التحفظ فیها إنما ورد لطروِّ عناوین ثانویة أوجبته، کما هو الواضح من روایة الفضل بن الربیع؛ إذ عزا الإمام(علیه السلام) التحفظ فیها لاشتمال الصلة علی المحرم، وهو ما قلناه سابقاً من خروجه عن ملکیة السلطان، وهکذا الروایة الثانیة؛ إذ إظهار التحفظ فی الاستلام بهذا النحو کان فیه هدم ما یروم الرشید بناءه فی صلة الإمام(علیه السلام) من دعایة وتمویه علی البسطاء، وهکذا بقیة الروایات التی ترد بهذا الصدد فلکل منها محمله.

الثانیة: أن الروایات التی سبق استفادة الجواز منها إنما وردت فی نمط معین من الدول وهی تلک التی عاصرت صدور تلک الروایات، ویمکن تعیینها بالسلاطین المدعین للخلافة الإلهیة المعتبرین ولایتهم شرعیة بمقتضی نیابتهم عن الرسول الأکرم6 أی ما یعادل منصب الإمامة _ حسب اعتقادهم _، فالمشروعیة حین تُعیَّن بذلک الصنف من الدول لا یصح التعدی منه إلی غیره من دون سند شرعی، بل لا أقل من اعتبار أن هذا النمط هو الذی یتوجه إلیه انصراف تلک الأدلة جمیعا، فثبوت الحکم لما سواه من دول مؤمنة أو غیر مؤمنة _ کما هو مقتضی البحث _ مما لا یتأتی استفادته من هذه الأدلة، ولیس هنا إطلاق یدعی فیها؛ لأنها جمیعاً لیست بصدد بیان هذه الجهة

ص: 120


1- وسائل الشیعة 17: 216 ب (51) من أبواب ما یکتسب به ح11.

من موضوع الجواز لتتم مقدمات الحکمة، بل کل ما فی الأمر أن الاستدلال للجواز إنما کان للملازمة بین مشروعیة ترتیب النتائج ومشروعیة مقدماتها، إذن فتعدیة الحکم إلی ما سوی ذلک الصنف من السلاطین غیر وجیه.

إلا أن دعوی الانصراف هذه مما لا مقتضی لها إذ وجود نمط معین من السلاطین وقت صدور الأخبار لا یعنی تقیید الاستعمال به، ولا سیما أن الموضوع الذی تذکره الروایات هو (السلطان، العمال) من دون تعقیبه بما یقتضی إرادة صنف معین أو فئة خاصة أو غیر ذلک، ولا سیما بعد أن عرفنا أن الاعتبار العقلائی هو الأساس فی الملکیة، والروایات إنما تعتبر مؤیدة وممضیة له، فلا حاجة للإطلاق أو مقدمات الحکمة؛ لأن الاعتبار لا یعنی هذا النمط أو ذاک.

إذن فالسلطان مالک لما تحت یده من أموال لا تدخل فی الأموال المباحة الأصلیة ولم یعلم لها مالک معین سواه؛ ولهذا تنفذ تجاراته ومعاوضاته وتصرفاته الأخری کافة، أما مع الشک فی الملکیة لبعض ما تحت یده فیمکن رفعه بقاعدة الید، وهی جاریة من دون محذور؛ إذ لم یتم شیء مما ذکروه من الإیرادات.

*** تعقیب:

سبق أن قلنا إن ملکیة السلطان لما تحت یده لا إشکال فیها حین یدعی هو هذه الملکیة لشخصه وتقترن دعواه بتأیید الرعیة، ولم نتعقل أن یکون المالک هو

ص: 121

شخص القانون کطریقة تمنهج فیها أمور الدولة، أو الجهاز الحکومی بلحاظ وظیفته فی متابعة تنفیذ القانون، وردَّدنا المالکیة بین الشعب ومنصب الرئاسة، إلا أننا رجحنا ملکیة المنصب لنفوذ تصرفاته وحده مع تأیید العقلاء له بهذا.

ونکمل هنا بیان جهة لا بد منها، وهی أن ملکیة هذا المنصب إنما تعتبر لذات المنصب لا من جهة ولایته علی أمر الشعب؛ إذ لو کان المنشأ هذه الولایة لما صحّت تصرفات السلطان إلا حین تکون مستقیمة مع هذه الولایة کما هو واضح، أی أن تکون لمصلحة الشعب أو تکون _ علی الأقل _ لیست بذات مفسدة له بینما المشاهد أن کافة التصرفات نافذة لدی العقلاء منه علی أی حال، کما کان الأمر مع أولئک السلاطین الذین عاصروا أئمة أهل البیت: وأنفذوا تصرفاتهم کما هو صریح روایة معاویة بن وهب، وروایة أحمد بن محمد بن عیسی المتقدمتین.

ولا یلتفت فی هذه الناحیة إلی ما یعلنه الکثیر من متسلطی الدول من ملکیة الشعب لما تحت أیدیهم وإنهما فی تصرفاتهم إنما یخدمونه ویحاولون نفعه فهذا شیء والاعتبار العقلائی شیء آخر.

***

ص: 122

المصارف والبنوک

توطئة لفهم الحدیث فی المعاملات المصرفیة بالنحو المطلوب ینبغی تقدیم جهات تمهیدیة عدة من ضروریات مجریات البحث و تطبیقاته و مناقشاته، إلا أن سعة أبعاد هذه الجهات تستوجب اقتصار الوقوف فیها عند النتائج القریبة منها من دون الولوج إلی أعماق تستدعی تشعب الحدیث، وهذا ما حاولناه هنا، فمع أن لکل من تلک الجهات مجالاً واسعاً من الحدیث والاستدلال والمناقشة إلا أننا لم نستطرد فیها سوی ما تعنیه الجهة المطلوبة وربطها بالحدیث فقط؛ ولهذا فإن ذکرها هنا لا یغنی عن الرجوع إلی مصادرها التی ینبغی الرجوع إلیها فی کتب الفقه.

*** الجهة الأولی: لا نقاش فی حرمة الربا کما هو معلوم لدی المسلمین _ بل هو من ضروریات التشریع الإسلامی _ وقد وردت الآیات والروایات فیه کقوله تعالی:

ص: 123

[الَّذِینَ یَأْکُلُونَ الرِّبَا لاَ یَقُومُونَ إِلاَّ کَمَا یَقُومُ الَّذِی یَتَخَبَّطُهُ الشَّیْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِکَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَیْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ الله الْبَیْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَآءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَیَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَی الله وَمَنْ عَادَ فَأولئک أصحاب النَّارِ هُمْ فِیهَا خَالِدُونَ]((1)).

وروی عن الإمام الصادق(علیه السلام) أنه قال: درهم ربا عند الله أشد من سبعین زنیة کلها بذات محرم((2)).

وروی الإمام الصادق عن النبی(صلی الله علیه و آله) فی وصیته لعلی(علیه السلام) قال: یا علی الربا سبعون جزءاً، فأیسرها مثل أن ینکح الرجل أمه فی بیت الله الحرام، یا علی درهم ربا أعظم عند الله من سبعین زنیة کلها بذات محرم فی بیت الله الحرام((3)).

ولئن کانت المسألة بمثل هذه الأهمیة والوضوح فإن الاختلاف فی بعض جزئیاتها لا یطال هذه المسألة الکبری.

والربا المحرم قد یقع فی البیع وله شرطان:

1_ اتحاد جنسی العوضین کالذهب عوض الذهب والحنطة عوض الحنطة، ووحدة الجنس مفهوم أناطه الشرع بالعرف حیث لم یرد لهذه الوحدة حدود شرعیة یتفرد الشارع بها، فحکم العرف هو النافذ فی المسألة فما رأی العرف أنه جنس واحد حکم بتحریم المفاضلة فی العوضین فی بیعه وإلا فلا.

ص: 124


1- البقرة: 275.
2- الکافی 5: 146 ح1 ب (51) فی الربا ح1.
3- وسائل الشیعة 18: 121 ب (1) من أبواب الربا ح12.

نعم ورد من الشارع ما دلَّ علی فی خصوص اتحاد جنسی الحنطة والشعیر، واعتبار کافة أنواع التمر جنساً واحداً، فمن الأول ما روی عن الأمام الصادق(علیه السلام) فی حدیث: (إن الشعیر من الحنطة)((1)).

ومن الثانی ما روی عن أبی جعفر(علیه السلام): یکره وسقاً من تمر المدینة بوسقین من تمر خیبر لأن تمر المدینة أجودها((2)).

وحینئذ ففیهما فقط لا بد من الوقوف عند هذه الوحدة، أما فی غیرهما فکما قلنا:إن العرف هو صاحب النظر، فمتی حکم بالوحدة اعتبر التفاضل ربویاً وإلا فلا، من دون الالتفات إلی جودة أحد العوضین ورداءة الآخر؛ لأن هاتین الصفتین لا تستوجب خرق هذه الوحدة لأنها لا توجب اختلاف الجنس.

2_ أن یکون جنس العوضین من المکیل والموزون کما فی الأمثلة السابقة، وأما المعدود والجزاف فلا مانع من التفاضل فیه کما فی الأوراق النقدیة والکتب والدور وشبهها.

والمرجع فی الکیل والوزن أیضاً هو العرف الذی تجری فیه المعاملة؛ ولهذا فإن ما یباع کیلا أو وزناً فی بلد ما أو وقت ما تحرم المفاضلة بین العوضین فیه وإن بیع فی بلد آخر أو زمن آخر عدّاً أو جزافاً، وهکذا العکس بالعکس إذ لا یعتبر البیع ربویاً فی المعدود فی وقت ما، وإن بیع فی بلد آخر أو زمن آخر وزناً أو کیلاً.

ص: 125


1- تهذیب الأحکام 7: 88 ب (8) فی بیع الواحد بالاثنین وأکثر من ذلک وما یجوز منه وما لا یجوز ح16.
2- من لا یحضره الفقیه 3: 206 ب (87) فی الربا ح25.

وکما تحرم الزیادة فی البیع الربوی یکون البیع الربوی باطلاً، فلا تنتقل ملکیة أیّ من عوضی المعاملة من صاحبها، وهذا یعنی وجوب الرد علی من وقع بیده أحد العوضین إلی صاحبه الأصلی، سواء أکان طرفاً فی المعاملة الربویة أم لم یکن مع علمه.

وقد یقع الربا فی القرض، وشرط تحققه: أن تکون الزیادة مشروطة لنفع المقرض مشافهة أو ضمناً فالزیادة المشروطة لنفع المقترض لا تعد من الربا المحرم.

ولا فرق فی الزیادة المشروطة للمقرض بین أن تکون عینیة أو حکمیة، فالربا المحرم یتحقق ففی ما لو أقرض سعدٌ محمداً ألفاً علی أن یرجعها إلیه بعد سنة ألفاً وخمسمائة، کما یتحقق لو شرط علیه عند إقراضه منّاً من تمر ردیء أن یرجع إلیه بعد سنة منّاً من تمر جید النوع.

کما لا فرق فی أن تکون الزیادة معینة المقدار غیر تصاعدیة کأن یقرضه ألفاً علی أن یرجعها إلیه ألفاً ومائتین بعد ستة أشهر من وقت التسلیم، أو تجعل الزیادة نسبة ثابتة یکون للزمن فیها جزء دخیل فی تضاعفها کلما تأخر الأجل فترة کخمسة بالمائة للشهر الواحد أو أکثر، کما لا فرق أیضاً فی أن یکون شرط الزیادة حین العقد أو فی ضمن المدة أو عند التسلیم.

نعم، لو قدم المقترض للمقرض شیئاً من طیب نفسه حل للمقرض استلامه من دون ریب وإن کان هذا راغباً وآملاً منه ذلک، إلا أنه لم یشترط ذلک فی العقد، وقد روی جعفر بن غیاث عن أبی عبد الله(علیه السلام) قال: الربا رباءان: أحدهما ربا حلال

ص: 126

والآخر حرام، فأما الحلال فهو أن یقرض الرجل قرضاً طمعاً أن یزیده ویعوضه بأکثر مما أخذه بلا شرط بینهما، فإن أعطاه أکثر مما أخذه بلا شرط بینهما فهو مباح له، ولیس له عند الله ثواب فیما أقرضه، وهو قول الله(عزوجل)[فَلا یَرْبُوا عِندَ الله]((1))، وأما الربا الحرام فهو الرجل یقرض قرضاً، ویشترط أن یرد أکثر مما أخذه فهذا هو الحرام((2)).

ولکن هنا فرق بین ربا البیع وربا القرض فهذا الربا لا یبطل المعاملة القرضیة کما فی ربا البیع، بل المحرم فیه هو الزیادة فقط، فیجوز للمقترض وغیره التصرف فی المال المقترض بالمعاملة الربویة إلا أن المقرض یجب أن یردّ ما أخذه من الزیادة لو علمها وعلم صاحبها بعینه.

کما لا یشترط أن یکون المال المقترض من المکیل والموزون بل الحکم بالتحریم یتحقق فی المعدود أیضاً؛ ولهذا فهو یقع فی الأوراق المالیة وغیرها من المعدود.

والمعاملات المصرفیة الجاریة تعتمد فی الغالب علی هذه المعاملة الباطلة، فالمهم الآن ذکر الموقف الشرعی فیما یجری فی هذه المعاملات، وضمن هذه الحدود فقط ستکون وقفتنا مع المسألة _ کما قلنا_ ولا نحاول اقتراح طرق مصرفیة تنشأ من التوجیه الشرعی لتلک المعاملات.

***

ص: 127


1- سورة الروم: 39.
2- وسائل الشیعة 18: 160 ب (18) من أبواب الربا ح1.

الجهة الثانیة: معروف أن المصارف المعاصرة تقوم بأعمال کثیرة جداً لا یمثِّل القرض والاقتراض إلا بعضاً منها، بل إن للأعمال المصرفیة الأخری کالکفالات والاعتمادات وغیرها ما یفوق القرض والاقتراض أهمیة وتأثیراً فی الاقتصاد العالمی، وهی فی معظمها مستحدثة بعد عصر التشریع الإسلامی.

ولهذا فلا یؤمل وجود نص أو توجیه إسلامی معین یضع المکلف المسلم فی الموضع المناسب الذی یبتغیه منه التکلیف الإلهی، کما لا یؤمل وجودها فی مباحث السابقین من الفقهاء المسلمین، حیث لم یعلم عنها شیء فی عصور سبقت الانفتاح علی مصائب الحضارة الغربیة الحدیثة؛ إذ لم تکن محل ابتلاء لهم قبل هذه العصور التی تداخلت فیها المعاملات التجاریة لا علی الصعید القطری فقط، بل العالمی أیضاً مما تجاوز الحدود الجغرافیة والتشریعیة أیضاً، وفرضت نفسها علی المجتمعات کلها فی شتی بقاع العالم بصورة لم یجدِ معها التقوقع والانغلاق.

والمجتمع الإسلامی کأی مجتمع آخر فی هذه الدنیا فرضت علیه هذه المعاملات المصرفیة، وأصبحت محل ابتلاء لکل مکلف شاء هو ذلک أم أبی، من حیث یعلم أولا یعلم، وعلیه فمن الضروری أن تسمع کلمة التشریع فیها، ووظیفة رجال الإسلام بیان هذه الکلمة بوضوح تبلغ حجته مسامع الأمة.

ولهذا کله کان طبیعیاً أن یقع الذین أغلقوا باب الاجتهاد فی مأزق حرج؛ إذ مع فقدان النص الخاص لا بد من استلهام القواعد والأصول والأمارات الشرعیة المعروفة لاستنباط الحکم الإلهی منها، وهو ما لا یمکن لغیر الفقیه القیام به.

ص: 128

ولأن کثیراً من معاملات المصرف لا یدخل فی أحد العناوین المعروفة سابقاً لم یوفق أولئک الذین حاولوا اعتبارها من جزئیات تلک العناوین المعروفة فی زمن الرسول6 والسابقین من المسلمین، ویتعقد الأمر أکثر لو لوحظت تبعیة العقود للقصد التعاملی؛ حیث لا تکون تلک العناوین مقصودة لأی من المصرف والعمیل معاً فکیف یجری علیهما حکمها؟! نعم، إن الأعمال المصرفیة وشبهها من المسائل المستحدثة التی تستوجب فتح باب الاجتهاد؛ إذ إن الفقیه لا یعدم الوسائل الشرعیة الموصلة إلی الحکم الشرعی المطلوب من قواعد وأصول وأمارات، ولا ینتهی الأمر إلی القیاس المنهی عنه وخصوصاً حین لا تستند العلة المشترکة إلی دلیل شرعی معتبر.

ویمکن القول: إن هذه الأعمال المستحدثة کما تستوجب فتح باب الاجتهاد تشیر إلی عظمة مذهب أهل البیت: الذی سبق المذاهب الأخری فی الوقوف علی هذه القضایا وأرشد متبعیه إلی کلمة الحق فیها.

وغرضنا نحن لا یعدو هذه الناحیة فإننا نحاول استرشاد الهدایة الإلهیة بما رسم لنا من تلک القواعد والأصول لبلوغ الحکم الشرعی المعذر فی هذه المعاملات، ولا نغمض دور فقهاء أجلة سبقوا فی هذا الطریق فشکر الله لهم السعی وجزاهم خیر ثواب العاملین المخلصین.

***

ص: 129

الجهة الثالثة: أن الإسلام یعترف بالملکیة الشخصیة وأن هذه الملکیة تابعة لأصولها الشرعیة المعتبرة، وما لم تکن قائمة علی هذه الأصول لا یعترف بملکیة صاحب الید علی ما تحت یده، فالید مع هذا الانحراف الشائع فی المجتمع تعتبر غیر مشروعة المحل، وحینئذ ففی هذه الحالة یجب علی صاحب الید إیصال ما لدیه إلی مالکها مع الإمکان مهما کلف الأمر، وهذا مما اتفقت علیه الآراء الفقهیة کافة، ویؤیده حکم العقل والنقل أیضاً.

وهنا صور ینبغی التأکید علیها لعلاقتها بمباحث المصارف، وربما نقف عندها فی طیات الحدیث، ونحن نستعرضها مع أحکامها حسب المختار من دون الإشارة إلی دلیلها، إذ هو مما یطول معه الکلام، فمن یرغب الاستزادة علیه أن یرجع إلی مواضعها فی کتب الفقه.

الصورة الأولی: أن یکون ما وصل إلی ید المسلم ملکاً لکافر حربی لم یهادن المسلمین علی حقن دمه وماله، فالمال مباح للمسلم، وله تملکه حیث تصل إلیه یده وبأی وسیلة کانت.

الصورة الثانیة: أن یقع مال المسلم أمانة فی ید آخر، ولکن من وقع بیده المال لا یستطیع إیصال المال إلی مالکه إما لعدم علمه بمکانه کأن یودع زید لدی عمر مالاً ثم یغیب زید غیبة تنقطع بها أخباره عن عمر فلا یَعرِف عنه شیئاً أو أنه لا یعرف من یستطیع بلوغه حتی یئس منه، وإما لعدم علمه بالمالک، کما فی اللقطة أو وصول الحیوان إلی دار آخر ولا یعلم مالک الدار عن مالک الحیوان شیئاً، أو وصل إلی أحد شیء بطریق الهواء، بل حتی فی موارد الغصب والسرقة والربا حیث یتسلط شخص علی مال شخص آخر بطریق غیر مشروع، إلا أنه بعد التوبة

ص: 130

ومحاولة العود إلی الله لا یعرف عن صاحب المال أو عن مکانه شیئاً، ففی جمیع الحالات السابقة یسمی المال فی الاصطلاح الفقهی بالمال المجهول المالک.

وحکم مجهول المالک أن یُدفع إلی الإمام(علیه السلام) فی حال وجوده وفی العصر الحاضر یدفع إلی نائبه الفقیه الجامع لشرائط الفتوی من الاجتهاد والعدالة، وتبرأ ذمة الدافع، کما یمکن له التصدُّق به عن مالکه، إلا أنه إذا تصدق به ثم عرف صاحبه أو عرف مکانه فإن رضی بالصدقة فذاک وإلا ضمن له المثل أو القیمة.

الصورة الثالثة: إذا وقع مال تحت ید شخص آخر لا عن طریق مشروع وعلم بمقدار المال وجب إیصاله إلی صاحبه مع العلم به أو إلی وارثه بعد موته، ومع الجهل بالمقدار یجب إعطاء القدر المتیقن، إلا أن یستطیع صاحب المال إثبات الأکثر بطریق عقلائی کقرینة قطعیة أو طریق شرعی کإقامة البینة.

الصورة الرابعة: أن یتردد المالک بین أشخاص متعددین حتی مع العلم بمقدار المال فهنا للفقهاء5 عدة آراء:

1_ وجوب إرضاء الجمیع بأی وجه، والتخلص من مطالبتهم.

2_ إجراء حکم مجهول المالک الذی سبق فی الصورة الثانیة.

3_ تعیین المالک بالقرعة لأنها لکل أمر مشتبه.

4_ توزیع المال معلوم المقدار علی الجمیع بالسویة.

والمختار هو الرأی الأول إذ مقتضی اشتغال الذمة وأدلة الضمان، هو دفع المال إلی مالکه، وحیث یتردد هذا بین أشخاص معدودین وجب إرضاء الجمیع ولکن لا یُلزم بخسارة شیء زائد من ماله.

ص: 131

الصورة الخامسة: أن یختلط مال الغیر المأخوذ لا عن طریق مشروع مع ما یملکه الآخذ بطریق مشروع، ولم یستطع الآخذ تمییز المالین، کما لا یعرف مالک المال، فیجب إخراج خمس مجموع المال المختلط من الحرام والحلال، وصرف الخمس فی مصارفه المعروفة.

أما حیث یعرف المالک فهو یدخل فی واحدة من الصور المتقدمة، إذ لا بد من تحصیل براءة الذمة من حقه.

*** الجهة الرابعة: ما یقع تحت ید المکلف من أموال حکومیة قد یعلم أنها _ بعینها _ مغصوبة من آخرین فیجری علیها حکم المال المحرم الذی ذکرت بعض صوره فی الجهة المتقدمة، وهکذا لو علم اختلاطها بالمال المحلل، وقد لا یعلم عن مصدرها شیئاً، وإن احتمل الحرمة فیها فیجری فیها ما ذکر فی ملکیة الدولة من رأیین معروفین:

أولهما: عدم ملکیة الدولة، وبناءً علیه یجری علیه حکم مجهول المالک، وهذا ما رآه الکثیر من الفقهاء القدماء والمعاصرین.

ثانیهما: ملکیة الدولة، وبناءً علیه یصبح هذا المال کأی مال مستلم من مالکه مما هو تحت یده ولم یعلم کونه غصباً، والرأیان معاً یجریان فیما یستلم من المصارف الحکومیة کما سیأتی إن شاء الله.

***

ص: 132

أقسام البنوک

قبل الحدیث فی الأعمال المصرفیة لا بد أن نقف علی أقسام هذه البنوک؛ لاختلاف النتائج فی بعض الأقسام حتی فی المعاملة الواحدة؛ إذ یمکن تطبیق بعض القواعد علی بعض الأقسام فی معاملة ما، بینما لا یمکن تطبیقها فی نفس تلک المعاملة فی أقسام أخری؛ إذ تختلف اللحاظات بین قسم وآخر، وعلیه فینبغی استعراض حیثیات هذه الأقسام وما تستوعبه من صور بنحو مختصر ینیر أمامنا مداخل الحدیث فی الأعمال المصرفیة:

الحیثیة الأولی: تقسیم المصارف بملاحظة مالکها وصاحب رأس المال فیها من حیث کونه محترم المال أو غیر محترم وهنا ثلاثة أقسام:

الأول: ما إذا کان المالک مسلماً، ولا شک فی احترام ماله، ولا یجوز تملکه إلا بما یعتبره الشرع من طرق تعاملیة معروفة.

الثانی: إذا کان المالک کافراً ذمیاً أو معاهداً یعترف له الإسلام بحرمة المال، وهو کالقسم السابق محترم المال ولکن فی حدود التزامه بشرائط الذمة أو العهد الذی أخذ علیه بالنحو الذی تذکره کتب الفقه، فلا یجوز امتلاک ماله إلا بالطرق

ص: 133

الشرعیة المعترف بها أیضاً، أو بما یندرج تحت قاعدة الإلزام بناء علی القول بعمومها لمثل المعاملات.

وما یذکر من أحادیث فی البحوث القادمة إنما هو فی هذین القسمین من دون القسم الثالث الآتی:

الثالث: أن یکون مالک المصرف کافراً غیر ذمی ولا معاهد، وهو ما یسمی _ بالاصطلاح الفقهی _ بالحربی، وفیه یکون مجرد الاستیلاء علی ماله بأی وسیلة کانت کافٍ فی تملکه؛ إذ لا حرمة لماله کما لا حرمة لدمه؛ ولهذا فإن ما یرد فی البحوث القادمة لا یجری فی هذا النوع من المصارف؛ إذ أخذ فیها احترام ما فی المصرف من أموال، والمعاملة الربویة وإن کانت محرمة مع الحربی علی المختار؛ لضعف مستند حلیة المعاملة الربویة مع الحربی((1)) إلا أن للمسلم بعد وقوع المعاملة أخذ ما یعطیه الکافر الحربی وتملکها من باب الاستنقاذ، وبملاحظة هذه الحیثیة کذلک قسموا المصارف إلی أقسام ثلاثة:

الأول: حکومی محض یتکون جمیع رأس ماله من الأموال الحکومیة فقط، من دون أن یکون لجهات أخری أو أشخاص أی مساهمة فیها.

الثانی: أهلی محض یمتلک جمیع رأس ماله شخص واحد أو أشخاص متعددون بنحو الشرکة والمساهمة.

الثالث: مشترک بین الحکومة وأناس آخرین علی نحو یمتلک رأس ماله کل من الطرفین بنحو الشرکة والمساهمة.

ص: 134


1- وهو مفاد روایة عمرو بن جمیع، ینظر: وسائل الشیعة 18: 135 ب(7) من أبواب الربا، ح2.

ویلاحظ أن هذا التقسیم إنما یثمر بناء علی ما جری علیه بعض الأعلام کسیدنا الأستاذ(دام ظله) والشیخ حسین الحلی1 من عدم ملکیة الدولة، واعتبار أن ما تحت یدها _ إن لم تکن عادلة _ من الأموال مجهولة المالک، فیحتاج تملک أی شیء منها إلی إذن من الحاکم الشرعی، وأما بناءً علی المختار من ملکیة الدولة، فلا تجری هذه الثمرة إذ لا فرق بین المصرف الأهلی والحکومی من هذه الناحیة، إذ لا یحتاج تملک ما یقبض منها إلی إذن من الحاکم الشرعی.

نعم، ربما یتصور الفرق من ناحیة أخری وهی أن ما یسلمه المصرف الأهلی والحکومی إلی العمیل یتصور علی أنحاء:

1_ أن یعلم العمیل بنحو قطعی أو لأمارة شرعیة بأن ما أخذه کان ملکاً لمالک المصرف سواء أکان هو الحکومة أم الأشخاص فإنه یصبح ملکه وله حق التصرف فیه من دون أدنی ریب.

2_ أن یعلم العمیل أن ما استلمه کان ملکاً لغیر صاحب المصرف، وأنه تسلط علیه بطریق غیر شرعی من غصب أو معاملة باطلة، وحینئذ فإن علم صاحبه وجب رده إلیه، وإلا اعتبر مجهول المالک فلا بد لتصحیح التصرف فیه من إذن الحاکم الشرعی.

3_ أن یعلم العمیل أن ما استلمه من المصرف کان _ بعینه _ من الأموال الربویة التی یستلمها المصرف من عملائه، فهذه الأموال وإن کانت حراماً علی صاحب المصرف إلا أنها بالنسبة للعمیل تدخل فی أحد الاحتمالین السابقین؛ إذ مع علمه

ص: 135

بصاحب المال یجب علیه رده إلیه مع الإمکان، وإلا جری فیه حکم مجهول المالک.

4_ أن یعلم العمیل أن ما استلمه من المصرف کان مشترکاً بین الأموال الربویة وما یملکه المصرف من أموال بالنسبة إلی صاحب المصرف إلا أنه بالنسبة للعمیل من الحلال المختلط بمجهول المالک حیث لا یعلم صاحب المال أو لا یستطیع إعطاءه حقه، فلا بد لتملکه من إجراء حکم مجهول المالک، وفی هذه الصور جمیعها لا فرق بین المصرف الحکومی والأهلی علی المختار.

5_ أن یشک العمیل بملکیة صاحب المصرف لما استمله منه، وفی هذه الصورة فقط یمکن ادعاء التفرقة بین المصرف الأهلی والحکومی؛ إذ یمکن تصحیح الاستلام والتملک بقاعدة الید لإثبات ملکیة صاحب المصرف لما تحت یده إذا کان شخصیاً أما إذا کان حکومیاً فقد یستشکل بإجراء هذه القاعدة؛ لأن نظر الأخبار فیها متجه إلی أحاد الناس أو منصرفة عن الدولة فمنها:

ما رواه حفص بن غیاث عن أبی عبد الله(علیه السلام) قال: قال له رجل: إذا رأیت شیئاًُ فی یدی رجل یجوز لی أن اشهد أنه له؟ قال: نعم، قال الرجل: أشهد أنه فی یده ولا أشهد أنه له فلعله لغیره، فقال أبو عبد الله(علیه السلام) أفیحل الشراء منه؟ قال: نعم، فقال أبو عبد الله(علیه السلام): فلعله لغیره، فمن أین جاز لک أن تشتریه ویصیر ملکاً لک ثم تقول بعد الملک: هو لی وتحلف علیه، ولا یَجوز أن تنسبه إلی من صار ملکه من قبله إلیک؟ ثم قال أبو عبد الله(علیه السلام): لو لم یجز هذا لم یقم للمسلمین سوق((1)).

ص: 136


1- وسائل الشیعة 27: 292 ب (25) من أبواب کیفیة الحکم وأحکام الدعوی ج2.

وحینئذ یَبقی ما تحت ید الحکومة وما یتبعها من المصرف الحکومی غیر مشمول لقاعدة الید فلا یحکم بملکیة المصرف الحکومی لما یشک العمیل فی مشروعیته مما یستلمه منه.

إلا أنه حتی مع تسلیم دعوی اختصاص أخبار الید بآحاد الناس أودعوی انصرافها عن الدولة، فإن الدولة مشمولة بقاعدة الید؛ إذ لا تنحصر أدلة هذه القاعدة بالأخبار لتمنع دلالتها بواحدة من هاتین الدعویین؛ إذ السیرة العقلائیة من کافة الأدیان والأمم، والسیرة المتشرعیة فی جمیع العصور والأمصار قائمة علی تصدیق صاحب الید فی دعواه لملکیة ما تحت یده، ولا قصور فیها بالنسبة إلی الحکومات، کما لم یرد ردع من الشارع عنها فیها، فافهم.

إذن فالسلطة مالکة لما تحت یدها کما فی الأفراد تماماً، فحیث یشک العمیل فی ملکیة المصرف الحکومی لما استلمه منه حکم بمشروعیة تملک المصرف وصحة استلامه وتملکه للمبلغ، وعلیه فلا یختلف فی هذه الصورة أیضاً المصرف الحکومی والأهلی.

الحیثیة الثانیة: الأعمال والأغراض التی یؤسس لها المصرف والخدمات التی یقدمها لمؤسسیه وعملائه أو للمجتمع العام کذلک، ویذکر بهذا الصدد کثیر من أقسام البنوک منها:

1_ البنوک التجاریة، وتسمی أیضاً بنوک الودائع، ولهذا النوع من البنوک وظیفتان أساسیتان:

ص: 137

أ_ قیامه بالتوسط بین المساهمین والمقرضین من جهة والمقترضین من جهة ثانیة، وبتعبیر أدق وأوضح هو یقوم بتجمیع مدخرات المساهمین والعملاء ووضعها فی متناول ذوی الحاجة ممن یروم الاقتراض من أصحاب المشاریع وغیرهم، وهذه الوظیفة لا یختلف بها هذا النوع من المصارف عن غیره من الأنواع الآتیة.

ب _ إصدار النقود، وهو یعنی إصدار وسائط الدفع، وهذه الوظیفة هی التی یتمیز بها المصرف التجاری عن غیره؛ إذ غیر هذا المصرف لا یمکنه إصدار مثل هذه الوسائط والسندات.

2_ البنوک الزراعیة: ومهمتها منحصرة فی شؤون الزراعة وتسلیف المزارعین وتهیئة وسائل إصلاح الأرض من أسمدة ومعدات ومکائن، والمساعدة علی تقدیم بذور المحاصیل وأشباه هذه المهمات.

3_ بنوک الاستثمار: وتنحصر وظیفتها فی جمع أموال المساهمین والمقرضین من حملة سنداتها وتوظیفها فی جهات معینة تعود علی أصحابها بالنفع کشراء الأسهم التی تعرض فی الأسواق للشرکات والمصانع وغیرها، علی أن یعود نفع هذه الأسهم لکل من المساهمین والمقرضین.

4_ بنوک الأعمال: وهی تشبه _ إلی حد کبیر _ بنوک الاستثمار؛ لأنها أیضاً مما یشتری الأسهم والسندات، إلا أنها تمتاز باستطاعتها المساهمة بإنشاء مشروعات جدیدة یمکن أن تخلق فرص عمل جدیدة؛ ولهذا فإن لمثل هذا النوع من المصارف أهمیة خاصة فی إنعاش الاقتصاد الوطنی والعالمی.

ص: 138

5_ البنوک الصناعیة: هی أیضاً شبیهة الغرض بالقسمین السابقین، إذ هی تهتم بالصناعة الوطنیة وتشارک فی إنشاء وتدعیم وشراء وبیع أسهم المؤسسات الصناعیة، وتزید علیها بتقدیمها القروض لأصحاب تلک المؤسسات بضمان عینی _ الرهن _ أو شخصی.

6_ البنوک العقاریة: وتنحصر مهمتها فی إقراض ذوی الأراضی لبناء المبانی بمواصفات خاصة وشرائط معینة، وهی غالباً ما تنجح فی انتزاع الممتلکات من أصحابها.

7 _ بنوک التصدیر: وغایتها تسهیل التجارة من فتح الاعتمادات وتقدیم الضمانات للحکومات والشرکات الموردة والتجار المستوردین وتحویل المبالغ وتهیئة ما یلزم من أمورها من شؤون مالیة وإداریة.

8 _ البنوک الشعبیة: وهی المصارف التی تنشئها الجمعیات التعاونیة للائتمان والتسلیف مقابل ضمانات عینیة بشروط محددة.

9_ البنوک المرکزیة: وهی التی تصدر عملة الدولة _ ورقیة أو غیرها _، وتتعامل مع سائر أنواع البنوک بالاستثمار، والائتمان والتسلیف وغیرها إذ إلیها ترجع کافة تلک البنوک فی تحصیل ما تدفعه من نقود و ضمانات، فهذا النوع هو بنک البنوک.

والواقع کما یلاحظ فی خلال الاستطراد المتقدم فی عرض الأنواع السابقة أن تصنیفها فی هذه الغایات والعملیات لیس من جهة اختصاص کل نوع منها بنحو خاص من المعاملات، وإنما اقتضاها التطور الحضاری والاقتصادی

ص: 139

والصناعی، وإلا فإن جوهر العملیات فی الجمیع واحد، إذ ما عدا ما یختص به البنک المرکزی من إصدار العملات النقدیة وما یختص به المصرف التجاری من إصدار سندات الدفع فإن الجمیع یشترک فی المعاملات الأخری من قرض واقتراض وتحویل وغیر ذلک مما سیأتی الحدیث فیه إن شاء الله.

10_ بنوک الدم وأعضاء الإنسان ونطفته، وهذا النوع مختلف واقعاً عن أنواع المصارف السابقة؛ إذ لا تعلق للحدیث حولها بالمال والمالیات المعروفة، بل فی أجزاء الإنسان وحکم انتزاعها منه حال حیاة الإنسان أو بعد موته، وإمکان زرعها فی آخرین، وما یتبعه من التلقیح الصناعی مقابل عوض أو لا عن عوض، وما ینشأ من هذا کله من أحکام شرعیة مبیحة أو مانعة، وسیأتی الحدیث فیها إن شاء الله.

***

الودائع المصرفیة

الأعمال المصرفیة واسعة ومختلفة الصور والأنحاء، ولمعرفة حکم کل منها ینبغی الوقوف علی الضوابط العامة لها، واستجلاء ما یمکن تطبیقه من القواعد الشرعیة علیها لمعرفة الحکم الإلهی فیها.

ولعل الودائع المصرفیة هی أشهر العملیات المصرفیة المتعارفة، وهی علی ثلاث صور:

ص: 140

1_ الودائع الثابتة: وهی التی لا یحق للمودع استرجاع ما أودعه من مال قبل مضی مدة معینة، ویتلقی مقابل هذا الإیداع ربحاً معیناً بنسبة مئویة معروفة کعشرة بالمائة سنویاً، علی أن تکون کمیة المال محددة بالحدّ الأدنی أیضاً دون الحد الأعلی؛ إذ للمودع إبقاء المال إلی ما شاء.

2_ الودائع غیر الثابتة: وهی التی یحق للمودع استرجاع المال الذی أودعه متی شاء من دون أخذ زیادة علی المال المودع فلا ربح فیه.

3_ التوفیر: وهو ما لا یشترط فیه حد أدنی حیث یقبل المصرف أی مبلغ یودع فیه وإن قل علی أن یکون للمودع نسبة معینة من الأرباح.

ویلاحظ هنا أن تسمیة مثل هذه العملیات ودیعة لدی المصرف لا ینسجم مع الاصطلاح الشرعی للودیعة؛ للاختلاف ما بین الاصطلاحین، ففی الودیعة الشرعیة لا یجوز التصرف للودعی فی عَین المال المودع بالنقل والانتقال إلا بالوکالة عن المودع، بینما أمر الودائع المصرفیة جمیعها یعود إلی المصرف نفسه، کما أن فوائد الودیعة الشرعیة تعود إلی المودع نفسه لا الودعی بینما فوائد الودائع المصرفیة تعود إلی المصرف لا العمیل، إلی غیر ذلک من فروق.

فالودائع المصرفیة فی الحقیقة_ وفی کافة الصور السابقة_ إنما هی من القرض والاقتراض حیث یتملک المقترض المال ویتصرف به أنّی شاء وتعود إلیه أرباحه، وهذه الملاحظة مهمة فی المناقشات الآتیة.

***

ص: 141

الودائع الثابتة:

المهم فی الحدیث حول هذه الودائع هو محاولة تصحیح عملیة الإیداع وأخذ الفوائد التی یعطیها المصرف للمودع، إذ سبق أن قلنا: إن عملیة الإیداع فی المصرف هی من عملیات الإقراض والاقتراض فالشرط الصریح أو الضمنی لأخذ الفوائد علی هذا القرض یکون من العملیة الربویة المحرمة شرعاً، وهی باطلة حتی مع المصرف المملوک للکافر الحربی _ کما بینا_، وإن قال البعض بجوازها إذا کانت الزیادة للمسلم إن لم تکن هناک حرمة لأصل التعامل معه من جهة نواحٍ أخری تمس حیاة المسلمین لِما یستلزمه الإیداع فی مثل هذه المصارف من تمکین لمحاربی الإسلام علی تقویة بنیتهم الاقتصادیة وإقدارهم علی استغلال المسلمین، أو استثمار تلک الودائع فی إنعاش بلادهم فی وقت تکون بلاد الإسلام فی حاجة إلی أن تستثمر فیها تلک الأموال بطرق مشروعة.

کما أن تحقق المعاملة الربویة جارٍ _ علی المختار من ملکیة الدولة _ فی المصارف الحکومیة، نعم بناء علی ما اختاره بعض الأعلام من عدم ملکیتها لما تحت یدها یکون إقراض المصارف من باب إهدار المال أو إتلافه حیث لا یستطیع المودع فی الغالب استرجاع عین ما أودعه؛ لاختلاط الأموال، أما استملاک ما یستلمه العمیل من المصرف فأمره متوقف علی إذن الحاکم الشرعی، لأنه من مجهول المالک، وهذه الملاحظات ینبغی أن یلتفت إلیها فی طیات الحدیث القادم.

وقد حاول الفقهاء تصحیح أصل العملیة وجواز أخذ الأرباح فیها بعدة توجیهات:

ص: 142

التوجیه الأول: أن یبیع العمیل المبلغ الذی یرید إیداعه علی المصرف إلی أجل معین بثمن أکثر منه، ومثل هذه الزیادة تصح فی المعدود من دون الأجل فضلاً عما یکون مع الأجل.

وقد ارتضی هذا التوجیه غیر واحد من الفقهاء کالمرحوم الشیخ حسین الحلّی1 وغیره من المعاصرین، زعماً أن هذه المعاملة إنما تحرم من جهة الربا فقط، فحیث یمکن دفع شبهة الربا تصح المعاملة، ویحل التفاوت ما بین المال المودع والمستلم، إلا أن التحقیق عدم صحة هذا التوجیه؛ إذ یرد علیه:

أولاً: أننا وإن لم نشترط التلفظ فی إنشاء البیع، فضلاً عن أن یکون بلفظ معین إلا أنه مما لا شک فیه أن البیع من المعاملات العقلائیة التی تتقوم بالاعتبار، وهذا الاعتبار إنما یمکن مع قصد الطرفین معاً له، دون تفاوت فی غرضیهما، ومثل هذا الشرط غیر متحقق فی العملیة المصرفیة هذه؛ إذ کل من العمیل والمصرف لا یقصدان التعامل البیعی، بل إن العمیل لو قصده فإن المصارف الحالیة لا تقصده، وعلیه کیف یمکن تنزیل المعاملة علیه والمتعاقدان لا یقصدانه؟!((1)).

وثانیاً: أن من شرائط بیع السلف _ الذی نزلت المعاملة علیه _ تحدید مدة الأجل المفروضة للثمن بنحو لا یَقبل الزیادة والنقصان بینما الأجل فی الودائع الثابتة إنما حدّد فیه الأجل الأدنی، أما الأکثر فلم یذکر بل للعمیل أن یترک المبلغ إلی ما شاء فی المصرف _ کما ذکرنا _.

ص: 143


1- نعم لو قصدا ابتداء هذه المعاملة صحت (منه (دام ظله)).

نعم، هنا احتمال قد یذکر لتوجیه الزیادة المستحقة علی المصرف علی أنها شرط للبائع الذی هو المودع بأن المصرف (المشتری) إن أبقی المال عنده ولم یدفعه إلی العمیل کان علیه إضافة تتناسب مع ما یؤخره عن المدة المقررة کأجل أدنی.

إلا أن هذا الاحتمال غیر وجیه؛ لأن الشرط إن کان هو شرط الفعل أی مجرد إعطاء الزیادة لم یستوجب هذا الشرط اشتغال ذمة المصرف بالزیادة وإن وجب الوفاء بالشرط لأدلته، وهذا خلاف واقع المعاملة المصرفیة؛ إذ المصرف نفسه _ فضلاً عن العمیل والقوانین الجاریة _ یری اشتغال ذمته بتلک الزیادة المتصاعدة مع الفترة التی یمکث فیها المبلغ لدیه.

وإن کان الشرط هو شرط النتیجة بمعنی نفس اشتغال ذمة المصرف بالزیادة بمقتضی الشرط، وأن وجوب الأداء إنما کان لهذا الاشتغال المشروط _ کما هو السائد فی الأسواق المصرفیة الرائجة _ فمثل هذا الشرط لم یرد دلیل علی إمضائه، فهو غیر صحیح. إذن فهذا التوجیه لم یصح.

*** التوجیه الثانی: أن یکون دفع المال للمصرف بعنوان الودیعة، ویرد علیه إشکالان:

ص: 144

أحدهما: أن الشریعة الإسلامیة المقدسة لا تسمح بالتصرف بالودائع، وهذا الشرط غیر متصور فی ودائع البنوک؛ إذ هی تتصرف بکل ما تحت أیدیها من أموال تصرفاً مالکیا.

وحاول بعضهم التخلص عن هذا بأن المنع إنما یتصور حیث لا یجیز المالک مثل هذا التصرف، وأما مع إذنه ولو کشرط ضمنی _ کما هو المتعارف فی إیداعات المصارف _ فلا مانع منه کما حاول هذا البعض دفع ما یرد من إشکال وهو:

إن هذا الإذن فی الحقیقة إذن فی التملک، وحینئذ فإن کان مجانیاً_ کما فی مورد الهبة_ لم یستحق المالک علی المصرف شیئاً، وإن کان الإذن فیه ضمانیاً کان هذا الإذن من موارد الإقراض فیعود علیه ما یشکل علی القرض.

وحاول البعض دفع هذا الإشکال باستبعاد أصل التملک فی هذا الإذن بل مصبّه هو التصرف فقط مع بقاء المال علی ملک المودع، إلا أن هذا القائل التزم بأن نتائج التصرف فی مال العمیل المودع لا تکون له بل للمصرف، فما یشتریه المصرف بهذا المال وما یربحه تکون له؛ إذ لا یشترط الملکیة فی التصرفات حتی فیما کان کالبیع من عقود المعاوضات.

ولکن هذا التوجیه کما یری واضح الوهن؛ إذ یرد علیه:

أولاً: أن اعتبار الملکیة فی مثل البیع مما لا إشکال فیه من أحد، إذ إن مفهوم البیع إنما یتحقق فی المعاوضات ولا یمکن تحقیقها إلا بالملکیة علی ما اخترناه فی محله.

ص: 145

وثانیاً: أن استحقاق العمیل للعوض فی ذمة المصرف لا یخرج منشؤه عن واحد من عدة تصورات:

1_ ما ذکره المجیب من أن الإذن کان إذناً ضمانیاً أی یجوز للمصرف التصرف فی المال علی أن یضمن عوضه للعمیل متی أراد العمیل استرجاع المبلغ، وهذا هو القرض _ کما سماه _، فما یؤخذ من المصرف زیادة علی المبلغ یکون من الربا المحرم وهو مما لا إشکال فیه.

2_ أن یَعِدَ المصرف العمیل بتعویضه متی شاء، وهذا مجرد وعد لا یلزم المصرف الوفاء به؛ إذ لا دلیل علی وجوب الوفاء بالوعد.

3_ اشتراط العمیل علی المصرف أن لا یأذن له إلا مع ضمان المصرف للعوض حین الطلب، ومثل هذا الشرط لا یجب الوفاء به لأمرین:

الأول: أنه شرط للفعل فی غیر عقد لازم، فلا یجب الوفاء به وإن قلنا بوجوب الوفاء بالشرط فی العقود اللازمة، مع أنه موضع بحث أیضاً وقد ذکرناه فی محله.

الثانی: أن هذا الوجوب _ مع التنزل _ لا یقتضی أکثر من لزوم الوفاء لا اشتغال ذمة المصرف للعمیل بالمبلغ إلا إذا اعتبر من شرط النتیجة، وهذا لا یصح؛ إذ لا دلیل علی اعتبار شرط النتیجة _ کما أشرنا إلیه _.

4_ اعتبار إذن العمیل بالتصرف والتزام المصرف بدفع العوض معاملةً جدیدة یستحق بموجبها العمیل عوض ما أُذن له فی التصرف به، وهذا إنما یصح لو قیل بصحة کل معاملة تجری بین العقلاء وإن لم یرد فیها نص، أو لم تکن معروفة فی زمن التشریع، وهذا التعمیم لا یمکن إثباته إذ لیس هناک أی دلیل علیه.

ص: 146

وثالثاً: أن إذن العمیل للمصرف فی التصرف فی أمواله علی أن یدخل عوضه فی ملک المصرف یعنی أن هذا الإذن إذن فی إتلاف المال، فکیف یستحق عوضه علی المصرف؟! إذن فالإشکال وارد ولا یمکن التخلص منه فإن التصرف مجانی علی القرض، ومع الضمان یکون قرضا،ً وأما لو لم یکن من هذا ولا ذاک بل هو من الودائع المأذون للمصرف الودعی التصرف فیها فما تنتجه حینئذٍ من أرباح یکون للعمیل؛ إذ لا مقتضی لتملک المصرف؛ إذ هو لیس إلا وکیلاً عنه فی التصرف، إذن فالتوجیه باطل.

*** التوجیه الثالث: أن هذا النوع من الودائع الثابتة من باب الإباحة بالعوض إذ یبیح العمیل للمصرف کافة التصرفات فی ماله حتی التصرفات الناقلة ومنها تملیک الغیر مقابل الأکثر المؤجل، والإباحة بالعوض من العقود العقلائیة، ویکفی لإمضائها ما ورد فی أدلة العقود من عمومات وإطلاقات منها قوله تعالی: [أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ]((1))، و[إِلاَّ أَن تَکُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنکُمْ]((2)).

ویرد علیه:

ص: 147


1- المائدة: 1.
2- النساء: 29.

أولاً: ما سبق أن قلناه من منع إمضاء غیر ما عهد من عقود فی زمن التشریع؛ إذ العمومات والأدلة إنما تجری فی مواردها حیث یستوعبها نظر المتکلم فی البیان، وحیث لم تعهد بعض المعاوضات کیف یمکن القول بشمولها فی العمومات الواردة فی العقود کالآیتین السابقتین؟! وثانیاً: أن ما یستلمه العمیل من المصرف کأرباح لیس محدداً فی کمیة معینة أو أجل معین بل هو کنسبة مئویة متفق علیها تجری مع بقاء المبلغ لدی المصرف من دون ملاحظة ربح المصرف فی تجارته أو خسارته، ومثل هذا النوع من المعاملة لا یصح حتی لو اعتبر کشرط فی ضمن المعاملة لیصح بأدلة الوفاء بالشرط.

وثالثاً: سبق أن عرفنا أن واقع المعاملة یجب أن یقصد من کلا طرفی العقد لکی تصح المعاملة حتی ولو لم یشترط التلفظ بها، أما إذا لم یُقصد هذا الواقع من کلا طرفیها أو من أحدهما فلا یمکن القول بصحتها حیث لا یتحقق مفهوم المعاقدة، وفی الودائع المصرفیة الثابتة حتی لو قیل بإمکان تصحیح الإباحة بالعوض فإنها غیر مقصودة لأی من طرفی المعاملة لا المودِع ولا المصرف، وحتی لو حاول بعض العملاء المتشرعین قصدها فی تعامله مع المصرف إلا أن من المؤکد أنها لا تطرأ علی ذهن أصحاب المصرف المتعارف أو العاملین فیه، فلا تقبل دعوی الصحة حینئذ؛ إذ لم یتوارد القصدان علی معاملة واحدة.

***

ص: 148

التوجیه الرابع: لو سلم أن الودائع الثابتة من باب القرض إلا أن الزیادة فی القرض إنما تحرم حیث یشترط المقرض الزیادة علی المقترض، أما حیث لا یذکر مثل هذا الشرط فإن للعمیل استلام الزیادة حیث یقدمها المصرف له تفضلاً.

وفیه: أن العمیل وإن لم یذکر مثل هذا الشرط مشافهة إلا أن الثانی لما قام بمثل هذا الشرط فی هذا النوع من الإیداع کفی هذا التبانی فی اعتباره کشرط ضمنی لأخذ الأرباح المقررة بل إن هذه الأرباح فی الحقیقة هی الدافع الأول للمالک فی أن یتعامل مع المصرف بمثل هذا النوع من التعامل، فهذا التوجیه لم یرفع حرمة الزیادة.

*** التوجیه الخامس: اعتبار الزیادة الموجودة فی هذه الودائع من باب الجعالة أی أن المصرف یجعل علی نفسه دفع نسبة مئویة سنویة معینة لکل من یودع لدیه مالاً بشروط خاصة، فالعمیل حینما یودع المال لدی المصرف یستحق علیه الجعل الذی شرطه المصرف علی نفسه.

وفیه:

أن هذا الوجه لم یُخرج المال المودع عن الاحتمالین السابقین، فهو إما ودیعة فیرد علیه جمیع ما سبق علی التوجیه الثانی السابق، وإما قرض فیرد علیه کذلک أنه مع شرط الزیادة فیه تکون محرمة بأی عنوان کانت.

ص: 149

ویضاف هنا إلی ما سبق من إشکال علی اعتباره ودیعة:

أولاً: أن شرائط الجعالة مما لا یتعقل توفرها هنا؛ لأنها إن کانت من المصرف للعمیل فهی فاسدة((1))؛ لأن من شرائط الجعالة أن تکون ممن له المال لا أن تکون ممن یقوم بالعمل، وإن کانت من العمیل للمصرف لما یقوم هذا به من عمل وتجارة وإدارة وغیرها، فهذا یعنی أن الأرباح إنما هی للعمیل، ولا یستحق المصرف شیئاً منها، کما أن الخسارة کلها تحتسب علی العمیل لو تحققت، بینما المشاهد فی الواقع الفعلی للمصارف أن هذین مما یخص المصرف لا العمیل.

وثانیاً: أن الجعالة سواء اعتبرت عقداً بین الجاعل والمجعول له أو إیقاعاً من الجاعل فلابد أن یقصدها طرفا المعاملة، ومثل هذا الشرط مفقود فی مثل هذه المعاملات المصرفیة، إذن فهذا التوجیه کسابقاته لم یتم.

وحینئذ وحیث لم یتم واحد من التوجیهات المتقدمة لا یمکن تصحیح عملیة الودائع الثابتة سواء أکان المصرف حکومیاً أم شخصیاً وسواء أکان مالک المصرف مسلماً أم کافراً ذمیاً أم غیر ذمی إذ المعاملة الربویة باطلة فی جمیع الحالات.

أما فی حال الاستیلاء القهری علی المال بمثل هذا المعاملة فالأمر لا یخرج عن واحد من احتمالین:

ص: 150


1- یمکن تصویر الجعالة بأن یجعل المصرف جعلا معیناً لمن یقوم بعمل الاستیداع فی المصرف، وتکون استفادة المصرف من ذلک منحصرة فی توفر الودائع لدیه لکسب السمعة والثقة فی السوق، إلا أنه لبعده عن مفهوم الجعالة لم یلتزم به؛ إذ إن المفهوم منها عرفاً _ کما هو التحقیق _ أن یکون العمل مغایرا لدفع المال.

الأول: أن یکون المصرف الذی استلم منه الزیادة حکومیاً، فالمسألة فیه مبنائیة؛ إذ مع القول بعدم ملکیة الدولة لا بد من إذن الحاکم الشرعی حتی فی تملک أصل المال فضلاً عن الزیادة؛ إذ الجمیع من الأموال مجهولة المالک، حیث لا یتصور استلام عین ما سلمه العمیل للمصرف منه، أما علی المختار من ملکیة الدولة فالأمر فی الزیادة لا تخرج عن الأطر المتصورة فی المصارف الأهلیة الواردة فی الاحتمال الثانی.

الثانی: أن یکون المصرف أهلیاً أو حکومیاً مع القول بملکیة الدولة، فالمال یجری فیه ما ذکرناه فی التمهید من صور:

أ_ أن یعلم العمیل ملکیة صاحب المصرف لما سلمه من الزیادة أو رأس المال فیحّل للعمیل تملّکه والتصرف فیه، ولا فرق فی هذا بین أن یکون صاحب المصرف مسلماً أو کافراً أو ذمیاً أو حربیاً.

ب _ أن یعلم رجوع المال إلی واحد معین ممن یحترم ماله فیجب علیه تسلیمه إلیه.

ج _ أن یعلم رجوعه إلی أحد غیر صاحب المصرف من دون تشخیص المالک للمال، ویجری فی المال حکم مجهول المالک.

د_ أن یعلم اختلاطه بین ما یملکه المصرف وما لا یملکه بنحو یرجع إلی واحد من الفرضین السابقین فیکون من باب الشرکة مع العلم بصاحب جزء المال عیناً، أو من الاختلاط بمجهول المالک مع عدم العلم به علی التعیین، ویجب التخلص من کلٍ بحسبه.

ص: 151

ه_ _ أن لا یعلم عن مصدر ما أخذه من المصرف، فتجری هنا قاعدة الید، ویعتبر ما استلمه من ملک المصرف، وصح تملکه والتصرف فیه.

***

الودائع غیر الثابتة:

وتتحقق باستیداع مال لدی المصرف علی أن یکون للعمیل سحبه متی شاء من دون زیادة ربح علی المبلغ، بل المصرف قد یتقاضی بعض المال من العمیل کأُجرة للحفظ وما یقتضیه من شؤون إداریة وأعمال متبعة.

وهذه العملیة لیست من الودیعة الشرعیة بل هی من القرض والاقتراض، والعملیة حیث لا تنطوی علی الربا فلا مانع منها مع أی مصرف أهلی أو حکومی _ مع ما قلناه من ملکیة الدولة _؛ إذ یملک المصرف ما یودعه إیاه العمیل، نعم مع القول بعدم ملکیة الدولة یکون الإیداع فی المصرف کإتلاف للمال.

وصحة هذه العملیة جاریة حتی لو اشترط شیء للمصرف؛ إذ الربا المحرم إنما هو المال المشترط للمقرض لا المقترض، فما یشترط للمصرف لقاء حفظه للمال لا مانع منه.

وأما المبلغ الذی یستلمه العمیل عوض المال المودع فیجری فیه ما سبق من احتمالات، فمع کون المصرف أهلیاً _ أو حکومیاً وقلنا بملکیة الدولة _ فلا إشکال فی جواز التملک والتصرف فیما یستلمه العمیل من المصرف سواء علم بکون ما

ص: 152

استلمه منه أنه للمصرف أو شک فی ذلک حیث یصح التسلیم بقاعدة الید، أما حیث یعلم أنه للغیر فلا بد من الخروج عن عهدته، فإن علم صاحب المال بعینه أرجعه إلیه، وإلا جری علیه حکم مجهول المالک.

نعم، هنا مبنی یمکن به تصحیح استلام ما علم أنه للغیر أیضاً ما لم یشخّص مالکه وهو القول بأن تصرف الغاصب فی المال المغصوب إن کان ناقلاً یصبح کإتلاف للمال، وأن حق المغصوب منه ینتقل إلی ذمة الغاصب فیملک فیها المثل أو القیمة فهو کما لو أتلف المال حقیقة، وحینئذٍ فیحل للعمیل الاستلام والتملک، وتبرأ ذمة المصرف من القرض بناء علی ما هو التحقیق من عدم اشتراط الملکیة السابقة فی تحقق الوفاء.

إلا أن هذا التصور لیس معروفاً، بل المعروف هو بقاء حق المالک فی العین وإن تعاقبت علیها الأیدی فأی استلام یکون لها لا یکون شرعیاً وهو محرم حیث یعلم ملکیة الغیر له، ولا یجوز للعمیل التصرف فی المال بینما تبقی ذمة المصرف مشغولة له بالقرض.

أما فی حالة اختلاط المال بین ما یملکه المصرف وما لا یملکه، أو بین الحلال والحرام فیجری فیه ما سبق أیضاً من وجوب الخروج عن عهدة ما لا یملکه المصرف إما بالرجوع إلی الحاکم فیما یجهل مالکه أو إلی المالک حیث یعلم بینما یصح التصرف فی ما یملکه المصرف بالذات.

وإن کان المصرف حکومیاً، ولم نقل بملکیة الدولة فقد قلنا:إن عملیة الإیداع فی المصرف هی کالإتلاف للمال حیث لا یمکن استرجاع عین المال کما

ص: 153

هو الغالب، وأما المال المستلم ­من المصرف إذا لم یکن عین ما سلَّمه هو للمصرف یعتبر مجهول المالک فیجب الرجوع فیه إلی الحاکم الشرعی سواء أکان من أموال الدولة المعلومة أم ما یشک فی منشأ تسلط الدولة علیها، أم علم أنها للغیر ولم یعلمه بالذات، نعم لو علم أنها لشخصٍ معین وجب ردها إلیه، وکذلک الأمر لو علم بالاختلاط فکل جزء یجری فیه حکمه _ کما بینا _.

هذا ولا یخفی إمکان تنزیل هذه العملیة علی البیع أو المعاملة المستقلة أو الجعالة أو الإباحة المعوضة لو أمکن تصحیح واحدة منها، کما سبق عرضه فی الودائع الثابتة.

***

التوفیر:

ولا یشترط فی حده الأدنی مبلغ معین، فالمصرف یقبل من العمیل أی مبلغ کان وإن قل علی أن یجعل له نسبة معینة من الربح السنوی مثلاً، وهذا مجعول لذوی الدخول المحدودة بخلاف الودائع الثابتة، حیث جعلت لذوی الدخول العلیا.

ولا یشترط فی التوفیر مدة لبقاء المال لدی المصرف، فللعمیل سحبه متی شاء، وهو مورد اختلاف آخر مع الودائع الثابتة حیث یُجعل لها أجل مسمی.

وقد حاول المرحوم الشیخ الحلی1 وبعض المعاصرین تصحیح عملیة التوفیر بما صححا به الودائع الثابتة واعتبراها إما عقداً مستقلاً مشمولاً لإطلاقات وجوب

ص: 154

الوفاء بالعقد أو راجعاً إلی البیع فی الذمة علی أن یشترط البائع (المودع) علی المشتری (المصرف) بأن له الحق فی استحصال الثمن منه متی شاء، ولا مانع من الزیادة إذ التفاضل لا مانع منه فی المعدود.

وقد عرفنا من خلال ما سبق عدم إمکان تصحیحه علی کلا الاحتمالین؛ إذ إن العقد المستحدث لا دلیل علی اعتباره؛ لعدم العلم بشمول الإطلاقات والعمومات لمعاملات لم تعرف فی زمان صدور تلک الأدلة، کما أن شرائط بیع النسیئة لا یمکن جریانها فیه؛ إذ البیع حقیقةً لم یقصد من کلٍ من العمیل والمصرف فکیف تنزل المعاملة علیه؟! ثم إن بیع النسیئة مما لا بد فیه من تعیین الأجل فی العقد، وهو هنا غیر معیّن؛ إذ المفروض أن للعمیل سحب المبلغ متی شاء.

ولو سلم أن التوفیر من بیع النسیئة إلا أن الإشکال یرد علی شرط إمکان استرجاع المبلغ متی شاء المودع ذلک، فهذا الشرط ما هو؟ فإن کان من شرط الخیار کما هو الظاهر من کلماتهم، أی أن للمودع الفسخ متی شاء، فیرد علیه إشکالان:

الأول: أن الفسخ یعنی تمکن المودع من استرجاع عَین ماله _ مع بقائه _ أو قیمته مع التلف أو ما هو بحکمه کاختلاطه بغیره من الأموال بنحو لا یتمیز عن غیره، وإن عُلم بقاؤه فی ضمن أموال المصرف والمودعین الآخرین کان المال بینهم.

وفی کافة الصور لا یستحق المودع أکثر من الأموال التی أودعها لدی المصرف، وهذا خلاف واقع التوفیر المتعارف فی المصارف الموجودة، إذ من

ص: 155

أولیاته إمکان استرجاع العمیل المال مع الأرباح المعینة کنسبة سنویة مئویة محددة.

الثانی: أن شرط الخیار المشروع تحدید مدته بنحو لا یحتمل الزیادة والنقصان، والتوفیر المصرفی لا توجد فیه مثل هذه المدة بل للعمیل سحب ما أودعه متی شاء، کما أن له إبقاءه إلی ما شاء علی أن تحتسب له الزیادة بنسبة متصاعدة، ولیس هذا من شرط الخیار المعروف.

وإن کان الشرط هو تمکن المودع من أخذ ثمن المبیع قبل الوقت المعین إنْ رَفَعَ الیدَ عن بعض ما علی المشتری من أرباح، فمعنی ذلک رجوع التوفیر إلی بیع عمولة بعمولة أخری أزید من الثمن نسیئة إلی مدة معینة مع خیارٍ یجعلُ للبائع فی أن یطالب المشتری بالثمن قبل الموعد المقرر فی البیع مع رفع الید عن بعض ما یستحقه من الثمن.

وهذا التوجیه خلاف المعروف من عملیة التوفیر المصرفیة إذ لا تقرر فیه مدة معروفة، أما لو فرض فیه تعیین أقل المدة فهو یرجع إلی عملیة الودائع الثابتة ویرد علیها ما ذکر من إشکالات، إذن فالتوفیر غیر صحیح، هذا کله بالنسبة إلی أصل العملیة.

أما بالنسبة إلی ما یستلمه العمیل من مال فیجری فیه ما سبق من الودائع الثابتة من کلام علی التفصیل الذی ذکرناه، ولا داعی للإطالة بالتکرار.

***

ص: 156

المال ومنشأ المالیة فی المالیات

المال فی اللغة: ما ملکته من کل شیء، کما جاء فی القاموس((1)) وتاج العروس((2)) وأقرب الموارد وغیرها من کتب اللغة، والظاهر من أئمة اللغة أن لفظ المال أجوف واوی کما نص علیه فی النهایة فی المادة((3)).

وقد یظهر من الراغب فی مفرداته کون أصله (م ی ل) وهو العدول إلی أحد الجانبین قال: والمال سمی بذلک لکونه مائلاً أبداً وزائلاً، ولذلک سمی عرضاً((4)).

وفی مجمع البحرین: المال فی الأصل الملک من الذهب والفضة، ثم أطلق علی کل ما یُقتنی ویتملک من الأعیان، وأکثر ما یطلق عند العرب علی الإبل لأنها کانت أکثر أموالهم((5))، وهو موافق لما فی النهایة، ویوهم آخر کلام المجمع أنه أجوف یائی کما فی مفردات الراغب.

وأفاد سیدنا الأستاذ(دام ظله):

ص: 157


1- القاموس المحیط: 4: 52 مادة (مول).
2- تاج العروس 15: 703 مادة (مول).
3- النهایة لابن الأثیر 4: 372 مادة (مول).
4- مفردات ألفاظ القرآن: 478 مادة (میل).
5- مجمع البحرین 5: 475 مادة (مول).

«..فی العرف أن المالیة إنما تنتزع من الشیء بملاحظة کونه فی حد ذاته مما یمیل إلیه النوع ویدخرونه للانتفاع به وقت الحاجة، ویتنافسون فیه ویبذلون بإزائه شیئاً مما یرغب فیه من النقود وغیرها ضرورة أن مناً من الحنطة لیس کالمن من التراب، فإن الأول ینتزع منه عنوان المالیة دون الثانی، وأما عند الشرع فمالیة کل شیء باعتبار وجود المنافع المحللة فیه، فعدیم المنفعة المحللة (کالخمر والخنزیر) لیس بمال.. إلی أن قال: ثم إنه لا وجه لتخصیص المال بالأعیان کما یظهر من الطریحی فی مجمع البحرین، بل المال فی اللغة والعرف یعم المنافع أیضاً...الخ»((1)).

ویلاحظ علی ما فی القوامیس: أن تحدید المفهوم بما ملکته من کل شیء غیر منسجم مع الموازین العلمیة لتحدید هذا المفهوم؛ إذ یرد علیه:

أولاً: أنه یقتضی توقف المالیة علی الملکیة، وهذا یعنی أن الشیء ما لم یملک لیس مالاً، فالمعادن والجواهر الکریمة ومیاه العیون والأنهار وغیرها من المباحات العامة لیست بمال قبل أن تتملک من أحد، والوجدان لا یساعده؛ إذ هی مال وإن کانت لا تزال غیر مملوکة.

وثانیاً: لأنّه یقتضی أیضاً وجود تلازم خارجی بین المالیة والملکیة، مع أن هذا التلازم مما ینفیه الواقع المشهود، فکما سبق أن رأینا فی الأمثلة السابقة مالیة المباحات العامة یلاحظ کذلک بعض الأشیاء المملوکة لکنها فی نظر العرف لا تعتبر مالاً کما فی حبة الخردل والحنطة وذرات التراب وشبهها.

ص: 158


1- مصباح الفقاهة 2: 3 _ 4.

وثالثاً: أنه یستوجب خروج منافع العبید والعقارات والأشخاص والأعیان قبل تعلق الملک بها عن مفهوم المال، إلا أن ما یهون الأمر أن الدقة العلمیة غیر مطلوبة من اللغویین؛ إذ جلُّ اهتمامهم منصب علی الشائع من استعمالات الکلمة، ولا یؤمل منهم تحدید حقیقی لمفهومها.

ومن هنا یظهر أیضاً ما فی تعبیر صاحب مجمع البحرین والنهایة مع ظهور اختصاص المالیة لدیهما بالأعیان وهو غیر مسلم.

وأما ما ذکر فی مصباح الفقاهة فهو وإن کان قد سبقه إلیه بعض الأعلام((1)) إلا أنه غیر مسلم أیضاً؛ إذ یرد علیه:

1_ أن فیه تهافتاً واضحاً فهو فی حین ینکر علی صاحب مجمع البحرین حصره للمالیة فی الأعیان یکاد یصرح فی طیات حدیثه بهذا الحصر أیضاً؛ إذ أخذ فی تعریف المالیة قید الادخار، مع أن المنافع _ علی إطلاقها_ لیست مما تدخر، والنتیجة هی حصر المالیة بما یمکن ادخاره وهو الأعیان.

2_ لیس کل ما یتنافس فیه أفراد النوع أو یبذلون بإزائه شیئاً مما یرغب فیه یکون مالاً، فإن التلهی لیس مالاً شرعیاً بل ولا عرفیاً، وهکذا منافع الزوجة والمقام الاجتماعی المتمیز وشبهها، فهی مما یرغب به النوع ویبذل بإزائه ما یبذل وهی مع ذلک لیست مالاً شرعاً ولا عرفاً.

3_ لم یرد دلیل واحد من قبل الشرع یفکک بین المفهوم العرفی والمفهوم الشرعی للمال أو یعین مفهوماً شرعیاً له، فالمالیة مفهوم عرفی والمحکم فیها هو

ص: 159


1- ینظر: حاشیة المحقق الخراسانی علی المکاسب:3

العرف ولا یتأثر بالحرمة والحلیة، فالشرع قد یحکم بحلیة التصرف فی بعض الأشیاء أو الانتفاع بها کالزوجة والشمس والقمر وشبهها ولا یعتبرها من المال، کما أنه لا یظهر منه خروج کل ما یحرم الانتفاع به عنها وحتی ما مثل به من الخمر والخنزیر لم یرد دلیل واحد یسلب المالیة عنهما وإن حرم الانتفاع بهما وحرمت المعاوضة علیهما، بل یمکن الاستئناس ببعض الأدلة التی لا یستقیم فیها غیر المفهوم العرفی للمال فیهما، فقد ورد فی:

صحیحة محمد بن مسلم عن أبی عبد الله(علیه السلام) فی رجل ترک غلاماً له فی کرم له یبیعه عنباً أو عصیراً، فانطلق الغلام فعصر خمراً ثم باعه قال: لا یصلح ثمنه، ثم قال: إن رجلاً من ثقیف أهدی إلی رسول الله(صلی الله علیه و آله) راویتین من خمر فأمر بهما رسول الله(صلی الله علیه و آله) فأهریقتا، وقال: إن الذی حرم شربها حرم ثمنها، ثم قال أبو عبد الله(علیه السلام): إن أفضل خصال هذه التی باعها الغلام أن یتصدق بثمنها((1)).

ونحوها فی المنطوق روایة أبی أیوب((2)).

ومن الواضح أن الأمر بالتصدق یعنی ملکیة صاحب الکرم لثمن الخمر التی باعها الغلام جهلاً وإن حرم التصرف فیه بغیر الصدقة فی خصوص المورد لحرمة المعاملة.

وهنا احتمال آخر وهو أن الأمر بالتصدق إنما کان لبطلان المعاملة من جهة وعدم معرفة أصحاب الثمن، فیکون من المجهول المالک، ومع هذا لا دلیل علی

ص: 160


1- وسائل الشیعة 17: 223 ب (55) من أبواب ما یکتسب به ح1.
2- وسائل الشیعة 17: 223 ب (55) من أبواب ما یکتسب به ح2.

عدم اعتبار الخمر فیها مالاً؛ ولهذا قلنا بإمکان الاستئناس بهذه الروایة ولیس الاستدلال.

ومثل الصحیحة فی الدلالة روایة إسماعیل بن مرار عن یونس فی مجوسی باع خمراً أو خنازیر إلی أجل مسمی ثم أسلم قبل أن یحل المال، قال: له دراهمه، وقال: أسلم رجل وله خمر وخنازیر ثم مات وهی فی ملکه وعلیه دین قال: یبیع دیانه أو ولی له غیر مسلم خمره وخنازیره ویقضی دینه، ولیس له أن یبیعه وهو حی ولا یمسکه((1)).

وهذه الروایة صریحة فی ملکیة الخمر والخنزیر، ولکن لا یعتمد علیها؛ لإضمارها وورود إسماعیل بن مرار فی سندها وهو لم یوثق.

ومثلها روایة مصدق عن عمار عن أبی عبد الله(علیه السلام) فی حدیث قال: سئل عن رجلین نصرانیین باع أحدهما من صاحبه خمراً أو خنازیر ثم أسلما قبل أن یقبض الدراهم هل تحل له الدراهم؟ قال: لا بأس((2)).

مضافاً إلی جملة من الروایات المعتبرة الدالة علی جواز استیفاء الدین مما علم أنه ثمن للخمر والخنزیر((3)).

إذن فالمالیة مفهوم عرفی عقلائی یتحکم فیه اعتبار العقلاء فمتی جری اعتبارهم فی مالیة شیء حکم به وإلا فلا.

ص: 161


1- وسائل الشیعة 17: 227 ب (57) من أبواب ما یکتسب به ح2.
2- وسائل الشیعة 25: 376 ب (34) من أبواب الأشربة المحرمة ح3.
3- وسائل الشیعة: ب (60) من أبواب ما یکتسب منه.

ومن هنا یظهر ما فی ما ادعاه بعضهم من المالیة الذاتیة لبعض الأشیاء؛ إذ هو مما لا معنی له کما هو واضح حتی فی الذهب والفضة إذ مالیتهما متقومة باعتبار العقلاء لهما لا بشیء آخر.

کما أن العرف هو المحکم فی قیاس مالیة الأشیاء إذ هی تتفاوت ولا شک فمنٌّ من الحنطة تختلف مالیته عن مَنٍّ من القطن أو من الحدید أو الذهب؛ إذ المقیاس لا یخضع دائماً لمدی ما یسدُّه المال من حاجة أو ما یکفیه من ضرورة، أو ما یحققه من رغبة؛ لتفاوت هذه الأمور بین إنسان وآخر، بل هو فی جمیع الحالات تابع للاعتبار.

وکان الذهب فی الأزمنة الماضیة هو الشائع فی هذا المقیاس أو هو مع الفضة، أما فی الأزمنة الحدیثة فقد تضاءل هذا الدور أمام العملات النقدیة الصادرة من الدول إذ هی المقیاس البارز حتی لمالیة الذهب والفضة سواء أکانت هذه العملات مما یسمی بالعملات العالمیة أم المحلیة.

ویختلف الاعتبار فی هذه العملات أو ما یسمی بالأوراق النقدیة، فقد یقتصر اعتبار الجهة المصدرة فی ورقة معینة علی تحقیق غرض خاص کطوابع البرید والمال والسندات فمالیتها محددة بما عینه الاعتبار لها من غرض، وقد یجعل لها الاعتبار صبغة شمولیة تنسجم مع جمیع أغراض الحیاة وشؤونها فی بلد معین کالدینار العراقی والکویتی وشبههما من العملات المحلیة أو ما هو أوسع دائرة من بلد الإصدار کالعملات الصعبة.

***

ص: 162

مالیة الأوراق النقدیة:

من الواضح أن الأوراق النقدیة المتعارفة _ ومثلها غیرها مما جری استعماله مقیاساً لمالیة الأشیاء کالقطع المعدنیة المسکوکة فی العالم الحدیث _ إنما هی مجرد أوراق أو قطع معدنیة لا تحمل فی ذاتها _ لو غض النظر عن الاعتبار الخاص فیها _ ما عین لها من مالیة فاستحقت من أجلها هذا التنافس المتمیز لاقتنائها ومعادلتها بالأموال الأخری کالقماش والطعام والشراب وغیرها، وإنما اکتسبت هذه المالیة من اعتبار الجهة المصدرة لها حیث تملک هذه الجهة مثل هذا الاعتبار.

والوجوه المتصورة فی هذا الاعتبار ثلاثة:

الأول: أن تکون لدی الجهة المصدرة ما یعادل هذه الأوراق المعتبرة من النقود الذهبیة والفضیة المسکوکة وهی إنما أصدرت هذه الأوراق حاکیة عما تستوعبه خزائنها من تلک النقود، فمقابل کل دینار عراقی مثلاً دینار ذهبی أو فضی مسکوک، وهکذا بالنسبة إلی أجزاء الدینار ومضاعفاته.

الثانی: أن تکون لدی الجهة المصدرة سبائک ذهبیة أو فضیة وتکون کل ورقة مما أصدرتها تلک الجهة حاکیة عن مقدار معین من ذلک المال المخزون.

الثالث: أن تکون مالیة هذه الأوراق متقومة بالاعتبار فقط والدعم المعنوی من الجهة المصدرة التی تملک مثل هذا الاعتبار لما تملکه تلک الجهة من قوة مالیة وسلطة معروفة علی بعض المصانع والشرکات والثروات الطبیعیة والاقتصادیة الأخری، ومعنی هذا الدعم هو أن تتعهد هذه الجهة بانتفاع حاملها بما یقابلها مما تحت إشراف تلک الجهة من المنافع والأموال الأخری.

ص: 163

وهذا الوجه هو الشائع فی عملات معظم بلدان العالم حیث شاع أن عملته لا یختص اعتبارها بخصوص ما تملکه الدولة من ذهب أو فضة وإنما بکافة ما فی أرضه من ثروات طبیعیة واقتصادیة، فورقة الدینار العراقی مثلاً غیر حاکیة عن سکة ذهبیة أو مقدار معین من الذهب أو الفضة بل کل مالیتها متقومة بتعهد الدولة العراقیة بدفع ما یقابلها من مالیات الدولة التی تمتلکها أو تحت إشرافها، وهکذا العملات الأخری المعروفة، وهذا لیس غریباً؛ إذ مالیة الذهب والجواهر الثمینة وشبهها إنما تتقوم بالاعتبار أیضا وإن کانت هی من المعادن إلا أن الفرق أن الاعتبار فی الأوراق النقدیة من جهة معینة بینما هو فی الذهب والجواهر من تسالم عموم العقلاء؟ وهذا هو الفارق بین هذا الوجه والوجهین السابقین، فبینما یعنی الوجه الأول والثانی حکایة الورقة النقدیة إما لمقدارها من العملة المسکوکة من الذهب أو الفضة کما فی الوجه الأول أو لمعادلها من سبائک الذهب والفضة کما فی الوجه الثانی، ولا یعنی الوجه الثالث سوی اعتبار الورقة من الجهة المصدرة وتعهدها بإمکان استفادة حاملها بما یعادلها من المالیات التی تحت إشراف الدولة.

وطبیعی أن تنشأ فروق تعاملیة کثیرة بین أوجه الاعتبار، کما سیتضح بعضها مما سیأتی إن شاء الله.

***

ص: 164

التعامل بالأوراق النقدیة

قلنا: إن هناک فروقاً فی التعامل بالأوراق النقدیة تبعاً للأوجه الثلاثة السابقة فی منشأ مالیة هذه الأوراق، وهذا التعامل قد یکون بنحو بیع الأوراق المالیة وقد یکون بنحو القرض، فهنا موردان یمکن البحث فیهما:

المورد الأول: فی بیع الأوراق المالیة:

ذکر الأعلام _ ومنهم السید الحکیم1 وسیدنا الأعظم(دام ظله)_ أن مالیة الأوراق النقدیة لو اعتبرت علی الوجه الأول فالبیع فیها یعنی بیع دینار مسکوک بدینار مسکوک؛ إذ الملاحظ فی مالیة الورقة حکایتها عن مسکوک الذهب أو الفضة، وعلی هذا لابد فیه من منع التفاضل بین الثمن والمثمن؛ لأن البیع مع التفاضل فیه یعتبر بیعاً ربویاً وهکذا الأمر لو اعتبرت المالیة فیها علی الوجه الثانی؛ إذ علیه تعتبر الورقة لحکایتها عن السبائک المخزونة من الذهب أو الفضة أو غیرهما.

أما علی الوجه الثالث، حیث لا مالیة لهذه الأوراق وراء الاعتبار فلا مانع من التفاضل فی البیع فیها؛ إذ هی لا تحکی عن مکیل أو موزون بل هی من المعدود، ولا شبهة فی بیع المعدود مع التفاضل؛ إذ لیس هو من الربا الممنوع شرعاً.

ولهذا صرح سیدنا الأستاذ(دام ظله) بجواز بیع الأوراق النقدیة مع التفاضل لما عرف من أنها _ غالباً _ جاریة وفق الوجه الثالث من أوجه الاعتبار.

إلا أن مواقع عدیدة للنظر تأتی فیما أفاده أولئک الأجلّة، فما ذکروه من صحة البیع من دون التفاضل لو کانت مالیة العملة جاریة وفق الوجه الأول یرد علیه:

ص: 165

1_ أن ورقة العملة حین تعتبر مالیتها لحکایتها عن الذهب والفضة المسکوکین فمعناه أن البیع فیها یکون من الصرف، وهذا یستوجب التقابض فی المجلس کما هو الشرط فیه، ویبطل البیع من دونه، بینما التقابض فی بیع الأوراق المالیة لنفس الأوراق، ولیس لما تحکی عنه من الذهب والفضة المسکوکین.

2_ لما کانت ورقة العملة حاکیة للمال الحقیقی المسکوک الموجود لدی الجهة المصدرة فمعناه أن هذه الجهة تعترف بأنها مدینة لحاملها بالمقدار المحدد فیها، فیمکن اعتبار هذه الورقة کوصل اعتراف بهذا الدین، فبیع مثل هذه الأوراق یعنی بیع ما فی ذمة الجهة المصدرة، وحین یکون الثمن کذلک کما هو المتصور فی أوراقه أیضاً فتکون النتیجة فیه من باب بیع ما فی الذمة بما فی الذمة أی من بیع الدین بالدین، وهوما اشتهر لدی الأعلام بطلانه وتصحیحه یحتاج إلی دلیل.

وغریب من سیدنا الأستاذ(دام ظله) أن یصحح بیع الأوراق المالیة علی هذا الوجه إن لم یکن مع التفاضل مع وضوح ورود هذین الإشکالین علیه.

وحاول الشیخ حسین الحلّی1 تصحیح هذا البیع مع هذا الوجه علی أساس أن تعهد الدولة بدفع الدینار المسکوک مقابل الدینار الورقی یجعل الدینارالورقی وجوداً تنزیلیاً للدینار المسکوک وکأنه فی متناول ید حامل الورقة وکأن تسلیم البائع للورقة تسلیم لذات الدینار المسکوک، وهکذا تسلیم المشتری فیتم تقابض المسکوکین تنزیلاً ویصح البیع.

وهذا التصویر غریب منه1؛ إذ یرد علیه:

ص: 166

أولاً: أن هذا التعهد یقتضی کون صاحب الدینار الورقی مستولیاً علی نفس الدینار الذهبی أو الفضی المسکوک، وهذا معناه أن من یبلغ لدیه مقدار النصاب الشرعی من النقود الورقیة تجب فیه الزکاة؛ إذ هو مالک للنصاب النقدی فعلاً، ولا موجب لإسقاط الزکاة عنه، وهذا ما لم یقل به الشیخ الحلی1؛ إذ هو لا یری وجوب الزکاة فی الأوراق النقدیة، حتی لو اعتبرت مالیتها علی الوجه الأول.

وثانیاً: أن هذا التعهد لا یحقق الاستیلاء شرعاً بل لا یکفی لما هو دونه مرتبة، وإن کان النظر فیها مجرد الحکایة عن الذهب والفضة المسکوکین، فیرد علیه الإشکالان السابقان، ولا یکفی ما ذکره من التوجیه فی التخلص منهما.

وثالثاً: إن هذا التعهد یجعل المالیة فی نفس الأوراق، وهذا یعنی اتحاد هذا الوجه والوجه الثالث المتقدم؛ إذ لم یُنظر فی مالیة الأوراق حکایتها عن مال آخر، سوی تعهد الجهة المصدرة لتلک الأوراق، وعلی هذا فلا وجه حینئذ لبحثه1 فی إمکان ثبوت الزکاة لهذه الأوراق أو عدم ثبوتها.

کما لا یمکن تصحیح البیع فی الأوراق النقدیة إذا اعتبرت علی الوجه الثانی المتقدم حتی مع عدم التفاضل علی منهج سیدنا الأعظم(دام ظله)؛ إذ هو یری أن التبایع فی الذهب والفضة وإن لم یکونا مسکوکین مما یحتاج إلی التقابض فی المجلس أیضاً، ومن الواضح أن التقابض فی الأوراق النقدیة للحاکیین عن الذهب والفضة _ بناء علی اعتبار مالیتهما من هذه الناحیة کما هو الفرض _ ولیس لذات المعدنین المخزونین.

وکذلک یرد الإشکال الثانی مما یرد علی الوجه الأول؛ إذ بعد فرض تعهد الجهة بأن الورقة تعنی استحقاق مقدارها من الذهب فی ذمتها لحاملها، فالتقابض

ص: 167

یعنی قبض کل من البائع والمشتری لسند ذلک الدین الذی فی ذمة تلک الجهة، فهو بیع دین بدین، وهو ما لا دلیل علی اعتباره کما سبق أن عرفنا.

إذن فکل من الوجه الأول والوجه الثانی لا یصح معهما البیع فی الأوراق النقدیة إلا أن مثل هذه الأوراق مما یقطع بعدم وجودها فی الوقت الحاضر، ولا سیما فی العملات العالمیة، وکل ما یعرف من هذه الأوراق إنما تجری مالیتها علی الوجه الثالث، ولا إشکال فی بیعها وشرائها، حتی مع التفاضل؛ إذ التفاضل إنما یمنع فی خصوص المکیل والموزون بینما لا تعد الأوراق إلا من المعدود فلا إشکال.

وعلی هذا جری الأعلام کالشیخ حسین الحلی1 والسید الحکیم1 وسیدنا الأستاذ(دام ظله) کما عرفناه منهم وإن تردد السید الحکیم1 فیه ولم نعلم وجه التردد.

إلا أن هنا مسألة أشار إلیها کل من السید الحکیم1 وسیدنا الأعظم(دام ظله) وهی إمکان بیع دینار شخصی بدینار مع زیادة فی الذمة؛ إذ أفتی سیدنا الأستاذ(دام ظله) بعدم الجواز حتی مع القول باعتبار مالیة الأوراق وفق الوجه الثالث، واستند فی المنع إلی أن التمایز والاثنینیة بین الثمن والمثمن مما لا بد منه فی البیع ولا یصح البیع من دونه فمع فرض أن الثمن فی الذمة یصبح کلیاً طبیعیاً، والکلی الطبیعی یمکن أن یتّحد فی المصداقیة مع کافة أفراده ومنها ذلک الفرد الذی استلمه المشتری کثمن فی عقد البیع، فحیث یمکن إعطاؤه کثمن للبائع اتحد کل من الثمن والمثمن، فلا تتحقق هذه المغایرة المطلوبة؛ إذ یصبح نفس الدینار المبیع دینار الثمن فیبطل البیع.

وقد حاول بعضهم تصحیح هذا البیع باشتراط شیء تتحقق بموجبه هذه المغایرة کأن یقول البائع: بعتک هذا الدینار المشخص برقم کذا فعلاً علی أن تدفع

ص: 168

لی غیره فی یوم کذا، أو یقول: بعتک هذا الدینار الذی هو من هذه الفئة _ کفئة دینار واحد _ علی أن تسلمنی بعد شهر دیناراً من فئة أخری _ کفئة نصف دینار _ وهکذا، فیرتفع الإشکال حیث یغایر مثل هذه الشروط بین الثمن والمثمن.

ویرد علی ما ذکره سیدنا الأعظم(دام ظله) ومن تبعه أن ما ذکروه من دلیل إمکان توحّد الثمن والمثمن بانطباق الکلی الطبیعی الذی فی الذمة _ وهو الثمن _ علی المصداق الخارجی _ وهو المثمن _ إنما یجری علی بعض آراء الفلاسفة لا الکل؛ فإن فی وجود الکلی الطبیعی رأیین أو أکثر؛ فمنهم من ذهب إلی أن الکلی الطبیعی خارجاً هو عین أفراده الموجودة حقیقة مع الغض عن مشخصات کل فرد من هذه الأفراد، فالکلی الطبیعی بالنسبة إلی أفراده کالآباء المتعددین لأبناء متعددین، فمفهوم الأب یتحقق عیناً بملاحظة وجود کل ولد _ وهو الصحیح _.

ومنهم من ذهب إلی أن وجود الأفراد الخارجی إنما هو مشیر إلی وجود الطبیعی ولیس هو عینه، وأنه کالأب الواحد لأبناء متعددین، وأن المضاف إلی هذا الفرد هو عین المضاف إلی ذلک الفرد من دون تغایر، وهذا ما رآه الرجل الهمدانی خلافاً لابن سینا _ کما قیل _.

والذی ذکره سیدنا الأستاذ(دام ظله) إنما یتمشی مع الرأی الأول حیث یمکن مع اتحاد المصداق اتحاد الثمن والمثمن، وإن کان أیضاً لا یخلو من مناقشة _ کما سیأتی _.

أما علی الرأی الثانی فلا مانع من صحة البیع حتی لو اتحد الفرد عنواناً؛ لأن التمایز حاصل فی العقد؛ إذ إن المثمن شخصی وهو عین الدینار الخارجی بینما الثمن

ص: 169

هو الوجود الذمی الکلی الطبیعی، وما الدینار الخارجی إلا مشیر إلی ذلک الکلی ولیس عینه، فتتحقق براءة الذمة بأی دینار یدفع وإن کان هو عین المدفوع مبیعاً.

بل حتی علی الرأی الأول؛ إذ إن الکلی الطبیعی هو غیر الفرد الخارجی؛ لأن الفرد الخارجی موجود بوجوده التکوینی القائم علی مکوّناته وعلله الخاصة، وأما الکلی الطبیعی فهو عنوان اعتباری ینتزعه العقل من ذلک العنصر المشترک بین الأفراد، ولا شک فی المغایرة بین الوجودین؛ ولهذا صحّ الحمل فی قولنا (زید إنسان) فلو کان زید هو عین الإنسان، لما صحّ مثل هذا الحمل الشائع.

إذن فلا مانع من هذا البیع، وما ذکره الأعلام لا یصح سندا للتوقف فیه فی القضیة الکلیة، وإن أمکنت المناقشة صغرویاً أیضاً؛ فإن الوجود الذمی لیس الکلی الطبیعی بل الموجود فی الذمة نحو موجودٍ یحصل بأسبابه ومکوناته فهو فرد مباین للموجود الخارجی تبایناً کلیاً؛ ولذلک یستحیل حمل أحدهما علی الآخر.

***

المورد الثانی: فی قرض الأوراق المالیة:

لاشک فی منع التفاضل فی القرض فیها فهو ربوی حتی لو قیل باعتبار مالیتها علی الوجه الثالث؛ إذ لم یحصر منع التفاضل فی خصوص المکیل والموزون کما فی البیع بل هو شامل حتی للمعدود فیحرم قرض دینار بدینار وربع علی کافة الأوجه، وهذا ما لا إشکال فیه.

ص: 170

تنزیل الأوراق

وفیه بحثان:

البحث الأول: فی تنزیل الأوراق النقدیة:

والمراد من هذا التنزیل _ کما یظهر من کلماتهم أن یکون لشخص ما فی ذمة آخر مبلغ مائة دینار مثلاً لمدة سنة فیبیع الدائن تلک المائة التی فی ذمة المدین حالاً لشخص ثالث بأقل من الدین کتسعین دینار علی أن یستوفی المشتری مائة کاملة من الدین فی وقت الاستیفاء.

ولا بدّ من ملاحظة أن مجال الأخذ والرد بین الفقهاء فی مثل هذه المعاملة هو خصوص البیع؛ إذ لو کانت بعنوان التنازل عن بعض الدین لمن یستوفیه من المدین فمما لا إشکال فیه، وقد وردت روایات عدة فی جوازه، والظاهر عدم الإشکال حتی فیما إذا کانت المعاملة بقصد البیع؛ إذ هو لیس فیه ربا البیع ولا ربا القرض، ولا سیما علی الوجه الثالث الذی جرت علیه مالیة الأوراق النقدیة.

نعم لو کان بیع الدین الذی فی ذمة الشخص المدین نسیئة أیضاً کأن یقول البائع: بعتک الدین الذی فی ذمة زید _ وهو مائة دینار _ لمدة سنة بتسعین دیناراً لمدة ستة أشهر لم یصح البیع؛ إذ هو من بیع الدین بالدین، وقد عرفنا سابقاً عدم صحته، وهذا الوجه کافٍ فی بطلان البیع، ولا حاجة للتعلیل بحاجة البیع إلی

ص: 171

التمایز والمغایرة بین الثمن والمثمن وهو هنا غیر متحقق؛ إذ کل من البیع والثمن یصدق علیه عنوان فی الذمة؛ إذ هذا التعلیل فی نفسه غیر تام؛ لأن الذمة لیست وجوداً خارجیاً وإنما هی وجود اعتباری، والتمایز فی الأمور الاعتباریة یکفی فیه الاختلاف فی ذات الاعتبار.

فما یوجد فی ذمة شخص له وجود اعتباری خاص ناشیء من علاقة شخصیة بین شخص وآخر فی معاملة توجب هذا الاعتبار کالبیع والقرض وغیرها، بینما الموجود فی ذمة شخص آخر له وجود آخر ناشیء من علاقة أخری، بل لا یتحد هذا الاعتبار حتی فی ذمة الشخص نفسه لشخص واحدٍ آخر ما دامت العلاقة متعددة، فکل من الاعتبارین یختلف عن الآخر ومتمیز عنه، فلا إشکال من هذه الناحیة، بل المنع _ کما عرفنا وسیأتی _ من جهةِ أنه بیع الدین بالدین، ومنعه من مسلّمات المذهب.

***

البحث الثانی: فی تنزیل الکمبیالات:

للکمبیالة أسماء متعددة فی العرف فهی قد تسّمی أیضاً: المستند المالی أو الأوراق المالیة غیر النقدیة أو السند، وربما تعطی هذه الأوراق أسماء خاصة أخری تحت شعار معیّن فی مناسبة من المناسبات.

ص: 172

وعلی کل حال فإن التسمیة غیر مهمة، بل المهم هو معرفة ما تعنیه هذه الأوراق فی صعید التعامل المالی.

ویمکن تعریف هذه الورقة بأنها ما کانت تحمل توقیع شخص أو جهة یعترف فیها الموقع بأنه مدین لحاملها بمبلغ معین إلی أجل خاص أو عند الطلب، وأن الموقع مستعدّ لدفع المبلغ حین الأجل أو الطلب.

ولهذا فإن هذه المعاملة لا تختص بالتعامل الفردی بین الأشخاص بل من الممکن جریانها بین الشرکات المساهمة، بل هی قد لا تحوی أی دین غیر التعهد المطلق من الموقع بدفع مبلغ معین لأی شخص یحملها فی وقت یذکر فیها أو حین الطلب، وهذا النوع غالباً ما تصدره الشرکات أو الدول فی أوقات الأزمات المالیة؛ إذ هی تبیعها فی تلک الأوقات علی الناس لاستحصال أثمانها والمساعدة علی تجاوز تلک الأزمات علی أن تقدم الجهة الموقعة بعد ارتفاع تلک الأزمات ما أخذته من مشتری السندات مع زیادة مقررة أو من دونها.

وفی کافة هذه الصور قد تکون تلک السندات الموقع علیها حاکیة عن دین حقیقی بین الموقع والمذکور اسمه فیها، وقد لا تحمِل مثل هذه الحکایة؛ إذ قد یعترف شخصٌ ما لآخر بدینٍ من دون أساس؛ لسبب من الأسباب، والسند الذی یحمل مثل هذا الاعتراف الکاذب یسمی بکمبیالات المجاملة أو السندات الصوریة أو الکمبیالات الاستنادیة، فزید قد یحتاج تسعین دیناراً من خالد إلا أن خالداً لا یستطیع توفیر المبلغ المطلوب له بالفعل فیکتب علی نفسه سنداً بأنه مدین لزید بمائة دینار بأجل سنة مثلاً.

ص: 173

وتنزیل الکمبیالة یعنی أن صاحب الدَّین الذی یحملها قد یبیعها علی شخص ثالث بأقل من المبلغ المذکور فیها أو مساویاً له علی أن یستوفی المشتری جمیع ما ذکر فیها من مبلغ فی الحالین کاملاً حین یحل أجلها إن کان فیها أجل، فزید فی المثال السابق یبیع سند المجاملة من محمد بتسعین دینار فعلاً علی أن یستوفی محمد من خالد مائة دینار حین یحل أجلها فیربح محمد من هذه العملیة عشرة دنانیر، والحال نفسها یمکن تصورها فیما إذا کانت الکمبیالة تحکی عن دین حقیقی؛ إذ للدائن الذی اعترف المدین له أن یبیع المائة بتسعین أو مائة.

والداعی إلی هذه العملیة قد تکون حاجة الدائن المعترف له أو بالأحری حاملها إلی المبلغ فعلا أو تسهیل الأمر علیه أو غیر ذلک من الأغراض العقلائیة المتعارفة.

ولاختلاف الأمر بین ما إذا کان هناک دین حقیقی وما إذا لم یکن استدعی أن یجعل الحدیث فی موردین:

*** المورد الأول: إذا کانت الورقة تحکی عن دین حقیقی فی ذمة الموقع، والبیع قد یکون:

1_ من البیع الحال من دون أدنی دین: حیث یستلم البائع کل الثمن فعلاً، وهذا لا مانع منه؛ إذ هو من بیع الدین الحال وهو جائز سواء أکان مع التساوی أم مع التفاضل إذا کان کل من الدین والثمن أو أحدهما من المعدود، أما إذا کانا من

ص: 174

المکیل والموزون فلا یجوز البیع؛ إذ المکیل والموزون لا یجوز بیعهما إلا یداً بید سواء أکانا متجانسین أم مختلفین _ کما قررناه فی مباحث الربا_.

نعم ذکر صاحب الجواهر1 أن هناک روایتین تعارضان الحکم المشهور فی جواز بیع الدین بالحال لا بد من الوقوف عندهما:

أولاهما: ما رواه الشیخ الکلینی والطوسی عن أحمد بن محمد عن الحسن بن علی عن محمد بن الفضیل عن أبی حمزة قال: سألت أبا جعفر(علیه السلام) عن رجل کان له علی رجل دین فجاءه رجل فاشتراه منه [بعرض] ثم انطلق إلی الذی علیه الدین فقال له: أعطنی ما لفلان علیک فإنی قد اشتریته منه کیف یکون القضاء فی ذلک؟ فقال أبو جعفر(علیه السلام): یرد علیه الرجل الذی علیه الدین ماله الذی اشتراه به من الرجل الذی له الدین((1)).

ثانیتهما: ما رواه الشیخ الکلینی عن محمد بن یحیی وغیره عن محمد بن أحمد، عن محمد بن عیسی عن محمد بن الفضیل قال: قلت للرضا(علیه السلام): رجل اشتری دیناً علی رجل ثم ذهب إلی صاحب الدین فقال له: ادفع إلیّ ما لفلان علیک فقد اشتریته منه، قال: یدفع إلیه قیمة ما دفع إلی صاحب الدین وبرئ الذی علیه المال من جمیع ما بقی علیه((2)).

ورواها أیضاً الشیخ الطوسی1 بسنده عن محمد بن أحمد بن یحی عن محمد بن عیسی عن محمد بن الفضیل((3)).

ص: 175


1- الکافی 5: 102 ب (24) بیع الدین بالدین ح2.
2- الکافی 5: 102 ب (24) بیع الدین بالدین ح3.
3- تهذیب الأحکام 6: 162 ب (81) الدیون وأحکامها ح410.

وسند الروایة الأولی ضعیف؛ فإن فیها الحسن بن علی وهو مشترک بین من ثبت توثیقه ومن لم یثبت.

أما الروایة الثانیة_ وکذا الأولی _ ففیها محمد بن الفضیل و قد اشتهر أنه مشترک بین الثقة وهو محمد بن القاسم بن الفضیل، وغیره، وأنه مردد بین من هو من أصحاب الرضا(علیه السلام) والذی أدرک عصر الإمامین موسی بن جعفر(علیه السلام) والصادق(علیه السلام) الذی ضعفه الشیخ ونقل فیه الرمی بالغلو، وبین غیره، ولکنک عرفت فی بعض الأبحاث المتقدمة وثاقة الرجل، وأن تضعیف الشیخ له لعله ناشئ مما رُمِی به من الغلو، وحیث لم یعرف منشأ لهذا الاتهام مع تعظیم الشیخ المفید 1 له فی الرسالة العددیة فیرجح لدی النفس اعتقاد وثاقته، ولا یبقی احتمال تردده بین الثقة وغیره، فتعقیب الشیخ صاحب الجواهر1 علیهما معاً بضعف السند فی غیر محله.

إلا أن الکلام فی دلالتهما فحیث ذکرهما صاحب الجواهر1 کروایتین مانعتین من بیع الدین بالحال بینما یبدو من دلالتهما أنهما تجوزان مثل هذا البیع ولا تمنعانه، فروایة أبی حمزة واضحة الدلالة علی هذا؛ إذ محکی قول الإمام(علیه السلام): «یرد علیه الرجل الذی علیه الدین ما له الذی اشتراه به من الرجل الذی له الدین»، والمقصود بالرد هو الأداء وعبر عنه بالرد؛ لأنه تفریغ للذمة من الدین السابق.

وهکذا الأمر بالنسبة للروایة الثانیة حیث یقول محکی قول الإمام(علیه السلام) «یدفع إلیه قیمة ما دفع إلی صاحب الدین» وهو شبه تصریح بصحة البیع؛ إذ معنی القیمة لا یتحقق إلا بتحقق مفهوم البیع.

ص: 176

والغریب فی الأمر أیضاً أن صاحب الوسائل ذکر هاتین الروایتین تحت عنوان (عدم جواز بیع الدین بدین)((1)) مع أنه لا دلالة فیهما بل ولا إشارة علی مثل هذا البیع.

وعلی أی حال فإن بیع الدین بالحال إذا کانا معدودین أو أحدهما لا إشکال فی جوازه.

*** 2_ أن یکون البیع مؤجلاً: أی فیباع السند الحاکی عن الدین بمبلغ یدفعه المشتری بعد فترة من الزمن تُعیَّن فی البیع، وهذا من بیع الدین بالدین، وهو مما اتفق علی عدم جوازه _ کما قلنا، ویدل علیه ما رواه الشیخ الکلینی بسنده عن طلحة بن یزید عن أبی عبد الله(علیه السلام) قال: قال رسول الله(صلی الله علیه و آله): (لا یباع الدین بالدین)((2)).

ولیس فی رجال السند من یستشکل فی توثیقه غیر طلحة بن یزید، وقد قال النجاشی فیه أنه عامی له کتاب یرویه جماعة((3))، وأکد الشیخ الطوسی1 هذا الوصف فیه إلا أنه عقب بأن کتابه معتمد((4)).

ومهما یکن القول فی الرجل إلا أن من اتفاق الإمامیة بل من مسلماتهم القول بعدم جواز بیع الدین بالدین کما یلحظ هذا من الشهید فی الروضة((5))، فلا توقف فی المسألة.

ص: 177


1- وسائل الشیعة 18: 347 ب (15) عدم جواز بیع الدین بالدین ح2 وح3.
2- الکافی 5: 102 ب (24) بیع الدین بالدین ح1.
3- رجال النجاشی: 297 فی طلحة بن زید رقم (550).
4- فهرست الشیخ الطوسی: 86، رجال الطوسی: 138 باب الطاء رقم (1464).
5- قال رضوان الله علیه: یصح بیعه بحال لا مؤجل، ینظر: الروضة البهیة فی شرح اللمعة الدمشقیة 4: 19 _ 20 کتاب الدین.

إذن فلا یجوز بیع السندات المالیة الحاکیة عن دین حقیقی ببیع مؤجل.

***

المورد الثانی: فی کمبیالات المجاملة

وسبق أن قلنا: إن حامل ورقة سند المجاملة لیس دائناً حقیقة لمن وقَّع علیها، بل کل ما فیها أن الموقع یتعهد بدفع المبلغ المذکور فیها لمن یدفع إلیه الورقة فی وقتها الذی وقع علیه المبلغ.

ففی المثال المتقدم حین یوقع خالد لزید بمبلغ مائة دینار فهذا التوقیع لا یعنی أنه مدین حقیقة بهذا المبلغ له فلا حکایة فی الکمبیالة عن دین واقعی لیجری فیه ما سبق من حدیث، بل کل ما فی الأمر أن خالداً یتعهد بدفع المبلغ لمن یدفع إلیه الکمبیالة بعد سنة.

ومن هنا تبرز أهمیة الحدیث فی هذا النوع من السندات؛ إذ أن بیع مثل هذا النوع یستوجب أسئلة متعددة تفرض نفسها ولا بد فیها من إجابة واضحة حول کل منها:

هل أن بیع مثل هذه السندات صحیح أم لا؟ ولو قیل بالصحة فما وجه هذه الصحة؟ وکیف یستحق مشتری الکمبیالة استیفاء المبلغ المذکور ممن وقع علی السند؟

ص: 178

ثم _ علی تقدیر استیفاء المشتری للمبلغ من الموقع _ هل یستحق هذا علی البائع شیئاً؟ وعلی تقدیر القول بالاستحقاق فما وجهه؟ إذن فأی توجیه لتصحیح هذه المعاملة یجب أن یستوفی الإجابة الکاملة عن کل هذه الأسئلة وما یتفرع عنها، کما یلاحَظ أن الإجابة یجب أن تکون فی حدود الواقع المشهود من هذه العملیة لا بمستوی اقتراح طرق جدیدة فی التعامل المصرفی کما قلناه فی منهجنا الذی اتخذناه فی هذه الأبحاث عامة، ویمکن أن نذکر هنا أوجهاً أربعة مما قیل لتوجیهها.

الوجه الأول: تنزیل توقیع المتعهد بالدفع علی هذه الورقة بمنزلة التوکیل فی الاستدانة، والتملک لما یستدینه علیه، أی أن الموقع وکّلَ من وقع له أن یستدین عنه ممن یشتری هذه الورقة منه ثم یتملک البائع المال المستدان ویحوِّل الدائن علی الموقع، فمثلاً لو وقع زید علی ورقة لحامد بمبلغ مائة دینار فهو قد وکّله بأن یستدین هذا المبلغ من أی شخص یشتری الورقة ثم یمتلک حامد المبلغ علی أن یدفع زید المبلغ للمشتری، فلو أن خالداً اشتراها أصبح زید مدیناً له حیث یجب علیه تسلمیه إیاه فی الوقت المذکور فیها أو مطلقاً، فالتوقیع هنا یحوی فی الحقیقة وکالتین:

الأولی: فی الاستدانة علی ذمة زید.

والثانیة: فی تملیک حامد المبلغ لنفسه عنه؛ إذ تملّک حامد للمبلغ لا یصح من دون هذه الطریقة.

ص: 179

هذا ما ذکره جملة من الأعلام منهم الشیخ حسین الحلی1 وبعض المعاصرین، إلا أنه غریب؛ إذ یرد علیه:

أولاً: أن الغرض إنما هو علاج المعاملات الجاریة بین الناس فعلاً لا إنشاء معاملات جدیدة، والمعاملات المعروفة فی تنزیل الکمبیالات إنما تجری کبیع وشراء ولا دلالة فیها علی توکیل.

ثانیاً: أن الوکالة عقد جائز ولا یلزم أیاً من الموکل أو الوکیل فلکلٍ من طرفی العقد رفع الید عنها متی شاء، وهذا غیر ممکن فی تنزل الکمبیالات؛ إذ العرف والقانون یلزم الموقع بالدفع فی الوقت المحدد أو مطلقاً.

الوجه الثانی: اعتبار هذه المعاملة من أبواب الضمان، فالذی یوقع الکمبیالة یضمن لمن یدفعها إلیه تسلیمه المبلغ المذکور فیها بینما بائع الکمبیالة یعتبر مضموناً عنه والمشتری مضموناً له.

والضمان هنا مما لا إشکال فیه؛ إذ هو عندنا انتقال المال من ذمة المضمون عنه إلی ذمة الضامن، ولیس من باب ضم ذمة إلی ذمة کما قال به بعض المذاهب الأخری لیقال إن ذمة المضمون عنه لم تشتغل بشیء لتضم إلیها ذمة الضامن فی سندات المجاملة.

نعم هنا إشکال لا بد من ذکره ودفعه لتصحیح هذا التوجیه، وهو أن توقیع الضامن علی السند إنما کان قبل البیع وتحقق الاشتغال الفعلی لذمة المضمون عنه، فکیف یتصور الضمان قبل البیع؛ لأنه من ضمان ما لم یجب وهو باطل؟

ص: 180

وأجابوا عنه: بأن الضمان لا یشترط فیه ثبوت الدین فی ذمة المضمون عنه؛ إذ لا دلیل علی اعتبار مثل هذا الشرط، ومع التنزل فإن ما یمکن فهمه هو تحقق اشتغال ذمة الناس قبل اشتغال ذمة المضمون عنه، أما هنا فیمکن الالتزام بعدم اشتغال ذمة الضامن قبل بیع المضمون عنه ما لدیه من السند واستلام المبلغ الموقع علیه فالإنشاء فعلی والمنشأ متأخر حتی حصول البیع، والتعلیق بهذا المعنی لا دلیل علی بطلانه.

وهذا الوجه غیر صحیح کذلک لأمرین:

أحدهما: أن الضمان عقد لازم یحتاج إلی إیجاب الضامن وقبول المضمون له وإن لم یحتج إلی اللفظ، إلا أن مفاد العقد وربط الالتزام بالالتزام لا یتحقق من دون عقد الموجب مع القابل، وفی بیع هذا النوع من سندات المجاملة لم یعقد الضمان بین الضامن الموقع والمضمون له المشتری له، ونحن إنما نقصد من الحدیث هنا معالجة المعاملات الجاریة فی تنزیل الکمبیالات _ کما أشرنا_.

ثانیهما: أن العقود تابعة للقصد فالضمان لکی یتحقق لا بد أن یقصد من قبل جمیع أطراف العقد، إلا أن أیَّاً من ذوی العلاقة فی سند المجاملة لم یقصد الضمان، فیکف یحمل البیع علیه فی السند الصوری؟! وما ذکروه من محاولات لرفع الإشکالین لم یکن ذا کفاءة لرفعهما.

هذا، مضافاً إلی ورود إشکالات أخری، کالتعلیق فی عقد الضمان، وأنه ضمان ما لم یجب، فتدبر.

***

ص: 181

الوجه الثالث: اعتبار هذه المعاملة من باب الحوالة ویمکن تصویرها بثلاثة أنحاء:

النحو الأول: إن البائع یبیع المبلغ الموجود فی الکمبیالة بما یستلمه من المشتری ولکن بدلاً من تسلیمه المبلغ المبیع یحیله علی الشخص الذی وقع علی الکمبیالة، والحوالة هنا صحیحة؛ إذ الموقع وإن کان بریء الذمة حین الحوالة إلا أن الحوالة علی البریء صحیحة عند جل الفقهاء.

ویرد علیه:

أولاً: أن بائع الکمبیالة لا یقصد بیع مبلغ فی ذمته لیحیله علی من وقّع علی الکمبیالة وتشتغل ذمة هذا الموقع بدلاً منه، وإنما یقصد _ فی المتعارف منها _ أن یوقع البیع علی ذمة الموقِّع رأساً، فلا قصد للحوالة من البائع.

وثانیاً: أن عقد الحوالة لیس ملزماً للمحال علیه إذا کان بریء الذمة حتی لو قیل بتصحیح الحوالة علی البریء بینما العرف والقانون یلزم الموقع علی الکمبیالة بدفع المبلغ فی الموعد المحدد أو مطلقاً وإن کان بریء الذمة.

وثالثاً: أن مقتضی الحوالة تبرئة ذمة المحیل عن المال المحال بمجرد تمامیة عقد الحوالة ورضا المحال علیه به؛ ولهذا أجری الفقهاء علی الحوالة تعریفهم بأنها: تحویل المال من ذمة إلی ذمة أخری، وتبرأ ذمة المحیل ولیس للمحال الرجوع إلی المحیل أبداً.

ص: 182

ومثل هذا التعریف لا یمکن تطبیقه فی بیع سندات المجاملة؛ إذ المشتری إذا لم یتمکن من استیفاء المال من الموقع علی الکمبیالة یرجع إلی البائع علی کل تقدیر، وإن کان لقصور منه، إذن فتوجیه العملیة بالحوالة بهذا النحو غیر تام.

النحو الثانی: أن یکون الموقع محیلاً ومحالاً علیه فی الوقت نفسه، فهو حین وقّع علی الورقة أحال کل من تصل إلیه علی نفسه أن یدفع المبلغ المذکور فیها فی الموعد المحدّد أو مطلقاً، وإن کان وصولها لید حاملها مجاناً.

وهذا النحو من الحوالة وإن لم یکن متعارفاً إلا أنه یمکن تصحیحه بعموم أدلة الحوالة، ولعل العقلاء لا یشککون فی مثل هذه المعاملة، ولم یرد منعها من الشارع، ویمکن تشبیه مثل هذه الحوالة بأن یقول شخص لآخر: اشترِ طعاماً لک علی أن یکون الثمن علی وفی ذمتی، فمع تصحیح مثل هذه العملیة تصحّح عملیة تنزیل الکمبیالة السائدة فعلاً بین الناس، ولم أجد من تعرض لهذا النحو من التوجیه، ولا إشکال فیه.

النحو الثالث: وهذا أیضاً لم أجد من أشار إلیه، وملخصه:

أن الکمبیالة بعد توقیع المتعهد علیها تصبح بنفسها ذاتیة المالیة _ بنحو ما ذکرناه فی الورقة النقدیة علی الوجه الثالث _ فحیث یکون التوقیع علیها قانونیاً کما إذا ثُبِّت فی إحدی محاکم الدولة أو کان من مصرف أو جهة ذات أهلیة للاعتبار، أصبحت کبقیة الأوراق المالیة النقدیة، غایة الفرق أن الأوراق النقدیة یعتبر المصدِّر لها دولة معینة، بینما الکمبیالة یمکن أن یوقعها شخص أو جهة أو مصرف أو غیر ذلک ممن له أهلیة الاعتبار.

ص: 183

ویؤید هذا النحو: بأن المتعارف بین الناس الاعتماد علی هذه الورقة، وجریانها مجری الأوراق النقدیة؛ ولهذا فإن تلفها یکون من نصیب المشتری، ولیس له سبیل إلی تحصیل المبلغ الموجود فیها ممن وقع علیها تماماً کمن تلفت منه الورقة النقدیة.

ولما کان أی من هذین النحوین قابلاً لتصحیح معاملة تنزیل سندات المجاملة فلا مانع من القول بالصحة لواحد منهما علی سبیل منع الخلو.

وهکذا تستبین الإجابة علی الأسئلة المتقدمة کلها، فالمعاملة صحیحة ولا مانع من جریانها؛ لأن الورقة أصبحت مما له مالیة ذاتیة بمجرد توقیع من له أهلیة التعهد فیستحق المشتری استیفاء المبلغ من الموقع حین یدفعها إلیه، وإلا رجع علی البائع أو من یحق له الرجوع علیه.

وأما حین یمتنع الموقِّع من دفع المبلغ فهو یعنی سقوط الورقة عن المالیة فیبطل البیع، ویرجع المشتری علی البائع بالمبلغ الذی سلّمه إیاه، کما لو باعه دیناراً تبین عدم صلاحیته للتعامل، وهذا الرجوع إنما هو لبطلان البیع ولیس فسخاً له أو موجباً للخیار فیه.

کذلک لا إشکال فی الرجوع علی البائع بناء علی النحوین الأول والثانی من توجیه الحوالة؛ إذ عدم رضا المحال علیه کاشف عن بطلان الحوالة، کما لا إشکال فی رجوعه علی البائع بناء علی اعتبارها من الضمان؛ إذ یوجد فیها شرط ضمنی ارتکازی هو أن المشتری یرجع علی البائع بالمبلغ حین یمتنع

ص: 184

الضامن من التسلیم، ویکون هذا الشرط مشمولاً لأدلة الوفاء بالشرط فحیث لا یعطی الضامن المبلغ کان للمشتری خیار الفسخ واستیفاء ما دفعه للبائع من ثمن.

ومن هذا یتضح عدم ورود ما احتمله بعض المعاصرین من أن الرجوع إلی البائع یمکن أن یکون من باب المصالحة؛ لعدم تحقق القصد إلیها الذی هو مناط المعاملة مع أن المصالحة إنما تکون فی حال التنازع أو منشئه _ علی المختار _، أما هنا فحیث یعتبر عند تنزیل الکمبیالة لازماً فلا وجه للتخاصم بعد براءة ذمة البائع سواء اعتبرناه محیلاً أو وکیلاً أو مضموناً عنه بحسب الاحتمالات الثلاثة المتقدمة.

*** تعقیب لعل من الجدیر بالذکر تعقیب الحدیث فی تنزیل الکمبیالات بالتنبیه علی أن هذا التنزیل سواء أکان فی السندات الحقیقیة أم المجاملیة لا مانع منه حین یکون الموقع علیها أو مشتریها شخصاً من الناس أو مصرفاً أهلیاً لا یتعامل بالربا، کما لا إشکال فی بیعها واستلام المبلغ المذکور فیها علی واحد مما سبق من التوجیهات الصحیحة، ویجری مثل ذلک فی المصارف الحکومیة بناء علی ملکیة الدولة.

فالإشکال یرد مع المصارف الحکومیة والأهلیة المتعاملة بالربا، أو الحکومیة مطلقاً مع القول بعدم ملکیة الدولة، فلا بد من ملاحظة الحدیث الذی ذکرناه فی المصارف.

ص: 185

فالمصارف الحکومیة قد یکون رأس المال الذی عین لها من الأنفال أو مما تجبیه من الناس من المصادرات والضرائب المشروعة، فلا بد من الرجوع إلی الحاکم الشرعی لتصحیح التصرف فیها وإن قیل بملکیة الدولة؛ إذ الأنفال من أموال الإمام والمصادرات والضرائب من أموال الناس الذین لا یعرف أشخاصهم فیعتبر مجهول المالک، ومثلها ما فی هذه المصارف من أرباح غیر مشروعة کنتیجة لبیوع باطلة أو معاملات ربویة وغیرها.

أما إذا کان رأس المال المعین من معاملات الدولة المشروعة وأملاکها الخاصة ولم یختلط بواحد مما سبق فیصح الاستلام کما سبق والتملک مع القول بملکیة الدولة، وإلا فلا بد من إذن الحاکم الشرعی، وأما فی حالة الاختلاط کما هو الواقع الفعلی للمصارف فلا بد من الإذن لتصحیح أی معاملة.

ومثله ما إذا اختلطت الأموال فی المصارف الأهلیة بین ما هو مشروع وما هو غیر مشروع کما علیه المصارف فعلاً لتعاملها بالربا والبیع غیر الصحیح وغیر ذلک، فلا بد أیضاً لتصحیح أی استلام وتصرّف من إذن الفقیه الجامع لشرائط الفتوی؛ لاختلاط الأموال بین الحلال والحرام ومجهول المالک.

ولکن یمکن أن یقال _ کما لا یبعد _: إن ما یأخذه الإنسان من أی جهة بمعاملة صحیحة یتملکه فی ظاهر الشرع ما لم یَعلم أنه یحرم أخذه شرعاً وإلا لما قامت للمسلمین سوق.

***

ص: 186

الکفالات المستحدثة

من العملیات المصرفیة المعروفة ما یسمی بالکفالات المستحدثة، وتتأدی هذه العملیة بما إذا اتفق شخص ولیکن (زیداً) مثلاً مع مقاول ولیکن (خالداً) علی إنجاز عمل کبناء بیت بسعر معین ووقت معین إلا أن المؤجر لم یطمئن إلی کفاءة المقاول أو إلی صدقه فی وعده وإنجازه العمل فی موعده المقرر وبکافة ما استوعبتهُ المقاولة من اتفاق فی المواصفات والخصائص، فیطلب المقاول من المصرف کفالته لدی صاحب العمل علی أن یدفع المصرف مبلغاً معیناً من المال لإتمام العمل علی المواصفات المطلوبة لو أخل المقاول بالمعاهدة فی الوقت والمواصفات علی أن یستوفی المصرف المال من المقاول مع زیادة فائدة معینة علی ما دفع بنسبة مقررة.

وطبیعی أن ترد تساؤلات عدیدة لا بد من الإجابة عنها:

1_ هل تصح هذه المعاملات شرعاً؟ 2_ ما حکم ما یحصل علیه صاحب العمل لو أخل المقاول بالاتفاق؟ 3_ ما حکم الزیادة التی یتقاضاها المصرف من المقاول؟ بل ما حکم رجوع المصرف علی المکفول بما دفعه؟

ص: 187

4_ ما حکم نفس العمل المتفق علیه فی هذه المعاملة؟ فهذه جهات أربع ینبغی عرضها علی القواعد الشرعیة لیعلم نظر الشریعة من خلالها:

الجهة الأولی: فی صحة العملیة:

قد حاول البعض تصحیح هذه المعاملة من خلال توجیهات حاول تطبیقها علیها و یمکن ملاحظة أهمها:

التوجیه الأول: تنزیل هذه المعاملة علی الوعد الصرف من البنک من دون أن یُلزم بدفع شیء حتی لو قصر المقاول فی إنجاز العمل إذ الوعد لا یجب الوفاء به.

والحق أن هذا التوجیه غیر تام؛ إذ هو:

1_ خلاف المشاهد فی هذه المعاملة؛ إذ المعروف أنه عقد یلزم المصرف بالدفع لما التزم به لصاحب العمل.

2_ إنه یعنی عدم اشتغال ذمة المصرف بشیء للمتعهد له فی حال تقصیر المقاول، کما لا یقتضی اشتغال ذمة المقاول للمصرف لو دفع هذا إلی صاحب العمل شیئاً لو قصر المقاول، وهذا خلاف واقع المعاملة المعروف، وحینئذ فلا یتم هذا التوجیه.

التوجیه الثانی: اعتبار هذه المعاملة من الجعالة، وهذا الوجه احتمله الشیخ حسین الحلی1 وغیره من المعاصرین، والتساؤل فی هذا التوجیه عن الجعل ممن هو؟ فقد یقال: إن المقاول هو الذی یضع الجعل للمصرف علی أن یتم العمل بدله لو أخلّ به أو قصر بمواصفاته وشرائطه، وهذا الجعل لتصحیح ما یأخذه المصرف

ص: 188

من الزیادة، وهذا الاحتمال یظهر من کلام الشیخ الحلی، إلا أنه مما لا یمکن تصحیحه؛ 1_ لأن لازمه عدم لزوم ما تعهد به المصرف؛ لأن الجعالة لیست لازمة بالنسبة إلی العامل وإن لزمت بالنسبة إلی الجاعل علی تقدیر قیام العامل بالعمل.

2_ ولأن اللازم علی هذا أن یدفع المقاول الجعل للمصرف بمجرد قیام المصرف بالکفالة؛ لأنها هی العمل الذی یقوم به المصرف لو کان عاملاً فی الجعالة.

3_ ولأن هذه الجعالة لا تستوجب اشتغال ذمة المقاول للمصرف بالزیادة لو دفع هذا شیئاً مقابل تقصیر المقاول؛ إذ الجعالة _ کما هو المفروض _ علی نفس الکفالة کما لا تستوجب اشتغال ذمة نفس المصرف؛ إذ الجعالة لیست لازمة علی العامل لا ابتداءً ولا استدامة.

وقد یقال: إن الجعالة کانت من نفس صاحب العمل المتعهد له علی الکفالة، وهذا الوجه ضعیف؛ لأن مقتضی الجعالة أن العامل غیر ملزم بالعمل وإن استحق الجعل حین یقوم به، وأن ذمة الجاعل هی التی تشتغل بالمال حینئذ، وهذا یعنی أن المصرف غیر ملزم بالقیام بأی عمل، وأنه هو الذی یستحق علی صاحب العمل ما جعل له فی حال التنفیذ بینما المشاهد فی معاملة الکفالة المستحدثة عکس هذا؛ إذ المصرف هو الذی تشتغل ذمته بالمبلغ فی حال تقصیر المقاول، فهذا الاشتغال غیر مستند إلی دلیل.

ص: 189

ثم _ مع فرض تصحیح مثل هذه الجعالة _ ما هو الملزم للمقاول المکفول فی العملیة لکی یدفع للمصرف ما دفعه لصاحب العمل مع زیادة الجعل؟ إذ هو أجنبی عن المعاملة، فالعامل هو المصرف والجاعل هو صاحب العمل، ومقتضی الجعالة أن تشتغل ذمته لا ذمة غیره، إذن فاشتغال ذمة المقاول بلا دلیل، مع ما عرفت من أن الجعالة لا تلزم العامل وإن قلنا إنها عقد _ کما هو المختار _.

التوجیه الثالث: تنزیل المعاملة علی المصالحة بین الطرفین.

والتساؤل عن المراد فی هذه المصالحة ما هو؟ لأنه إن أرید بها المصالحة بمعناها اللغوی المنسجم مع التوافق، فهذه لا دلیل شرعیاً علی إمضائها إذ لا دلیل علی شرعیة کل اتفاق وإن لم یکن فی ضمن ما عهد من معاملات فضلاً عن لزومه.

وإن أرید بها المصالحة بالاصطلاح الشرعی المعروف لدی الفقهاء ففیه:

1_ أن القدر المتیقن من مشروعیة هذه المصالحة هو ما یتأتی لرفع النزاع الفعلی أو ما یمکن أن یکون منشأً لمثل هذا النزاع کأن تشتغل ذمة أحد من الناس لآخر ولا یعلمان مقدار المبلغ الذی اشتغلت به الذمة، فیتصالحان لرفع النزاع بینهما، أما حیث لا ترد منازعة فعلاً أو احتمالاً فلا دلیل علی مشروعیة المصالحة حینئذ؛ إذ لا إطلاق تام فی أدلة الصلح یقتضی مشروعیته فی جمیع الحالات.

2_ ومع تسلیمه فإن لزوم الصلح محل بحث لدی الفقهاء، فمن الفقهاء من قال بلزومه ومنهم من قال بعدمه، بینما المعروف من الکفالة المستحدثة المجراة فی الأسواق المصرفیة، أنها لازمة إذ لیس لأی من أطراف المعاملة الانسحاب منها

ص: 190

سواء أکان هو المصرف أم المقاول أم صاحب العمل، فکل من هؤلاء ملزم بدوره فی المعاملة.

3_ ثم إن هذه المصالحة أین موقعها؟ ولا یتعقل أن تکون بین صاحب العمل والمقاول؛ لأن الذی بینهما إنما هو إجارة للقیام بالعمل ولیس هو من المصالحة فی شیء، کما أنها لا تکون بین المصرف ورب العمل؛ إذ هو لا یستحق علی المصرف شیئاً قبل تخلف المقاول عما ألزمته به الإجارة من وقت أو مواصفات عمل بینما مقتضی المصالحة هو الاستحقاق بمجرد تمامیة العقد؛ لأن تأخر الأثر عن المؤثر غیر معقول.

ومثل هذا أیضاً یقال فی جریانها بین المقاول والمصرف؛ إذ المصرف لا یستحق العمولة قبل دفعه المبلغ لصاحب العمل حین یتخلف المقاول عن العمل، فلا یمکن تصحیح هذا التوجیه أیضاً.

التوجیه الرابع: اعتبار هذه الکفالة عقداً مستقلاً مستحدثاً، فهو وإن لم یُشمل بواحد من عناوین العقود المعروفة إلا أنه یمکن أن یصحح بعمومات وإطلاقات أدلة العقود.

وفیه:

أننا عرفنا ومن خلال ما سبق من حدیث ما فی مثل هذه الدعوی من وهن؛ حیث لا یمکن تسلیم شمول العمومات لما لم یعرف من عقود فی زمن التشریع وصدور الأدلة.

ص: 191

التوجیه الخامس: إمکان ترتیب الضمان علی مثل هذه المعاملة، بدعوی أن المصرف المتعهد یضمن لرب العمل علی المقاول إتمام العمل فی مدة معینة ومواصفات محددة، وإن هو أخلّ به قدم المصرف من المال ما یتم به العمل، وهذا الضمان لیس مجانیاً بل هو یتم لقاء مبلغ معین یأخذه من المضمون عنه زیادة علی ما سلمه کأجرة یأخذها لهذا الضمان.

وهذا الضمان یستوجب اشتغال ذمة المصرف بإتمام العمل کما استوجبت الإجارة اشتغال ذمة المقاول به أیضاً وذمة صاحب العمل بالأجرة، ولهذا مطالبة المصرف بالعمل حین یقصر المقاول بتعهده، فالکفالة المصرفیة ضمان لحق المتعهد له الثابت فی ذمة المتعهد ولکنه معلق علی عدم إتمام هذا لما التزم به وتعهد لرب العمل، ولا دلیل علی بطلان مثل هذا التعلیق من العقل والنقل.

وما ورد فی العتق والطلاق والنکاح لا یمکن تسریته إلی المورد، کما أن ما ادعی من إجماع لا سبیل إلی إحراز الحجة فیه، إذ المحصل الکاشف عن رأی المعصوم غیر متحقق وما ینقل منه غیر حجة.

نعم إن المؤاخذة إنما تتصور من جهة الزیادة التی یستوفیها المصرف من المقاول المضمون عنه فإن المشهور من العلماء ذهبوا إلی أن الضامن لا یستحق علی المضمون عنه سوی ما دفعه إلی المضمون له، ویدل علیه ما رواه:

ص: 192

الشیخ رحمه الله بسنده عن عمر بن یزید قال: سألت أبا عبد الله(علیه السلام) عن رجل ضمن علی رجل ضماناً ثم صالح علیه قال: لیس له إلا الذی صالح علیه((1)).

ومثله رواه بسنده عن محمد بن علی بن محبوب عن بنان بن محمد عن صفوان عن ابن بکیر((2)).

ورواها أیضاً بسنده عن الحسین بن سعید عن محمد بن خالد عن ابن بکیر إلا أن فیه أنه قال: ثم صالح علی بعض ما صالح علیه((3)).

ورواها أیضاً الشیخ الکلینی عن محمد بن یحیی، عن أحمد بن محمد بن عیسی، عن محمد بن عیسی، عن ابن بکیر، عن عمر بن یزید((4)).

وقد ورد الخبر أیضاً فی مستطرفات السرائر عن کتاب ابن بکیر((5)).

ولکن یرد علیه:

أولاً: أن هذه الأخبار بعیدة عن محل البحث؛ إذ موردها حیث لا یقوم الضامن بأی عمل غیر تسدید ما ضمن من مال کما هو المتعارف فی موارد الضمان الأخری حیث لا یدفع جمیع المال ویکتفی ببعضه بنحو المصالحة علیه،

ص: 193


1- تهذیب الأحکام 6: 181 ب (84) من کتاب الدیون والکفالات والحوالات والضمانات ح7.
2- تهذیب الأحکام 6: 181 ب (84) الکفالات والضمانات ح6.
3- تهذیب الأحکام 6: 177 ب 083) الصلح بین الناس ح4.
4- الکافی 5: 260 ب (123) من الصلح ح7.
5- السرائر 3: 632.

وما نحن فیه یلتزم المصرف الضامن بتسدید جمیع المال المضمون، وإتمام المقاولة رسمیاً بإتمام الأعمال الإداریة والروتینیة أیضاً.

وثانیاً: ضعف سندها؛ لأن عمر بن یزید مشترک بین الثقة وغیره، فتصحیح طریق الشیخ إلیه فی الطریق الأول بنحو من الأنحاء لا یفید، والطرق الأخری مخدوشة ببنان بن محمد؛ إذ هو ممن لم یرد فیه توثیق سوی ما حکی عن الوحید1 فی تعلیقته من استفادة التوثیق من عدم استثناء محمد بن أحمد بن یحیی لروایته؛ إذ هو إشعار منه بالاعتماد علیه بل توثیقه((1))، وکذلک ما جری علیه سیدنا الأعظم(دام ظله) فی مسلکه المعروف من توثیق من یوجد اسمه فی کامل الزیارات((2))، إلا أن کلا الرأیین مما لا نقول به فیبقی من دون توثیق.

کما یمکن الخدشة فیها من جهة محمد بن خالد فإنه مشترک، وابن بکیر فإنه کان فطحیا وإن صدرت دعوی صحة ما یرویه.

الجهة الثانیة: فی وجه تصحیح ما یأخذه صاحب العمل من المصرف، وهذا الوجه تابع لما سبق عرضه من توجیهات لتصحیح هذه المعاملة، فبناء علی اعتبار المعاملة من باب الجعالة، أو القول بأنها عقد مستقل، فإن صاحب العمل بمقتضاهما یستحق ما تعهد المصرف به من مال حین یتخلف المقاول عن القیام بما التزم به من عمل، وهذا واضح مع القول بصحة التنزیل علی واحد من هذین العقدین لأدلة الوفاء بالعقد، کما هو الفرض.

ص: 194


1- ینظر: معجم رجال الحدیث 4: 273 فی ترجمة بنان رقم (1895).
2- معجم رجال الحدیث 1: 50 فی المقدمة الثالثة، التوثیقات العامة.

والأمر نفسه یجری بناء علی ما اخترناه من تنزیل المعاملة علی الضمان؛ إذ صاحب العمل یستحق بمقتضاه ما ضمن المصرف تقدیمه من مال حین یتخلف المقاول عن تعهده، وهکذا لا إشکال فی صحة استلام صاحب العمل ما یقدمه المصرف بناء علی التوجیه الأول والثالث أی اعتبارها وعداً صرفاً أو مصالحة، إذن فلا إشکال فی هذه الناحیة.

إلا أن مما یستغرب من الشیخ الحلی1 اضطراب حدیثه فی المسألة؛ إذ هو یربط ما بین هذه الکفالة وبین الکفالة بالاصطلاح الشرعی المعروف، ولهذا بدا کأنه یبنی استحقاق المکفول له لما یقدمه المصرف علی الأقوال المذکورة فی تلک المسألة، ویمکن أن یقال فی تصویر الکفالة المصطلحة:

إنه لو کان لنصیر حق علی علی وأراد علی الغیبة إلا أن نصیراً لم یطمئن لغیبته فطلب من یکفله ویتعهد بإحضاره وقت أداء الحق فرضی محمد بکفالته، فحین یحضر محمد علیاً لا کلام، أما إذا لم یحضره فإن کان الحق غیر مالی فإن الکفیل لا یلزم بأداء الحق سواء أکان من حق الله کالحّد أم من حق العباد کالقصاص؛ إذ مثل هذا الحق لا یلزم به سوی مقترف الجریمة.

وإن کان الحق مالیاً کالدین والزکاة_ بناء علی إمکان الکفالة فی الحق الإلهی المالی؛ إذ هو مورد خلاف _ فهل أن الکفیل یلزم بدفع المال عن المکفول أو لا؟ والمعروف بین الفقهاء عدم إلزام الکفیل بدفع شیء غیر إحضار المکفول مع تمکنه، ونسب هذا إلی المشهور إلا أن بعض الأجلة من العلماء قالوا بإلزام الکفیل بالمال کما یلزم بإحضار المکفول، واختلف هؤلاء أیضاً فمنهم من قال: إن

ص: 195

مقتضی الکفالة إلزام الکفیل بواحد من الأمرین معاً وفی عرض واحد علی نحو التخییر ومنهم من قال: بأن مقتضاها إلزام الکفیل بإحضار المکفول أولاً وإلا فیلزم بدفع المال.

والشیخ الحلی1 حین ربط الکفالة المستحدثة بهذه الکفالة الشرعیة اضطرب کلامه فلم یستعرض المسألة بالنحو اللائق، وهذا غریب منه1.

ومن الوجوه السابقة ظهر أن المسألة أجنبیة عن الکفالة الشرعیة، إذ فی هذه الکفالة إنما یلزم الکفیل بإحضار المکفول سواء أکان هذا الإلزام فی عرض تقدیم الحق أم أسبق منه درجة فی الترتیب، بینما فی الکفالة المصرفیة المستحدثة _ موضوع الحدیث _ لا یلزم المصرف مع إخلال المقاول بغیر تقدیم ما یتم به العمل من مبلغ وینجز بالنحو المطلوب، بنحو ما یضمن للمتعهد له تحقیقه بالمواصفات التی اشترطها فی مقاولته مع المقاول، أما إحضار المتعهد عنه، أو إتمام العمل ذاته فهذا مما لا یلزم به المصرف المتعهد بحال من الأحوال.

ومما یزید الأمر غرابة ما عقب به مقرر بحثه: من أن المصرف المتعهد لو دفع إلی المتعهد له صاحب العمل ما التزم به فهل له أخذ ما أعطاه من المقاول المتعهد عنه أو لا یحق له ذلک؟ فحکم بأن هذا الجواز یعتمد علی إذن المقاول المتعهد عنه فإن کانت المعاملة عن رضاه وإذنه رجع المصرف علیه بما دفعه إلی صاحب العمل وإلا فلا؛ إذ کل هذا أجنبی عما نحن فیه _ کما هو واضح _.

ص: 196

الجهة الثالثة: فی المجوز لرجوع المصرف الکفیل علی المکفول بما أعطاه، والزیادة التی یأخذها، وهذا المجوز واضح سواء بالنسبة لرأس المال أو الزیادة، بعد أن قیل بتصحیح المعاملة؛ لأنها_ بالنسبة إلی رأس المال _ إن اعتبرت معاملة مستقلة فإن هذا الرجوع فیه بعض شؤون عقدها، وبمقتضی هذا العقد یستحق المصرف الکفیل ما سلمه لصاحب العمل، ولا إشکال فی ذلک، والأمر کذلک لو اعتبرت من الضمان _ کما رجحناه _؛ إذ للضامن حق الرجوع علی المضمون عنه حین یکون الضمان بأمره وإن لم یکن الأداء بطلبه، وفرض المسألة هنا هکذا.

وأما بالنسبة إلی الزیادة فالأمر فیها واضح أیضاً بناء علی أنها معاملة مستقلة؛ إذ إن الکفیل یمتلک الزیادة بمقتضی عقدها کما أن للضامن أخذ الزیادة کأجرة من المضمون عنه فی مقابل العمل الذی یقوم به، وهذا لیس من الربا فی شیء، کما أن المعاملة لا علاقة لها بالکفالة بمعناها الشرعی المعروف لیرد علیها ما سبق من الإشکال.

الجهة الرابعة: فی ما یترتب علی المعاملة من الأعمال بالقیاس إلی المتعهد والمتعهد له، فإذا حصل الاتفاق بین مقاول وصاحب عمل علی أن ینجز المقاول العمل المعین ضمن فترة محددة، وهو إن تأخر کان علی الکفیل إعطاء مقدار معین من المال علی أن یکون هذا المقدار غرامة علی تأخیر إنجاز العمل من قبل المقاول المکفول، فله احتمالان:

ص: 197

الأول: أن یُعنی به أن استئجار المقاول لإنشاء مصنعٍ _ مثلاً _ بحیث یکون علی المقاول إتمامه علی أی حال فی ضمن المدة المحددة، أو ما بعدها إلا أن صاحب العمل یشترط علی المقاول أنه إن تأخر عن تلک الفترة المحددة دفع له مقداراً من المال معیناً فی ذمة الکفیل (المصرف).

وطبیعی أن هذا الاحتمال لا یخلو من الإشکال؛ لأن اشتغال ذمة المصرف الکفیل إن کان هو الشرط والعمل بمقتضاه فهو من باب شرط النتیجة، وقد سبقت الإشارة مراتٍ إلی عدم وجود ما یدل علی اعتباره أو صحته، وإن کان الاشتغال إنما هو من جهة الضمان فهذا إنما یستقیم علی رأی العامة الذین یعنون بالضمان أنه ضم ذمة إلی ذمة، وأما بناء علی اعتباره بأنه نقل المال من ذمة المضمون عنه إلی ذمة الضامن فهو لا یستقیم؛ لأن ذمة المقاول لم تشتغل بشیء لینتقل إلی ذمة المصرف الضامن.

الثانی: أن یکون معناه لیس هو اشتغال ذمة الضامن کما فی الوجه السابق بل الشرط هو دفع المال المعین إلی صاحب العمل حین لا یتم المقاول ما تعهد به من عمل ضمن الفترة المحددة، والحکم بالصحة هنا لا مانع منه؛ إذ إن صاحب العمل یستلم المال من المصرف الکفیل علی أن یرجع المصرف علی المقاول بما دفعه مع الزیادة المقررة التی صححنا أخذها کأجرة علی عملیة التسلیم.

***

ص: 198

فتح الاعتمادات

یُعنی بعملیة فتح الاعتمادات هو ضمان أحد المصارف تسدید ثمن ما یشتریه أحد التجار المستوردین من بائع مصدِّر قی مقابل مبلغ معین من المال، وغالباً ما یکون هذا بین دولتین أو مصدر ومستورد من دولتین مختلفتین، وقد یجری فی البلد الواحد وذلک بأن یرید أحد التجار شراء بضاعة من أحد الباعة، إلا أن هناک من الظروف ما یحول بینه وبین دفع الثمن نقداً للبائع، أو أن هناک ما یحول دون وصول البضاعة المشتراة إلا بطرق معینة، أو توجد رغبة لدی البائع بضمان ثمن ما یروم تصدیره، أو أن من مقتضیات دولة معینة الإشراف المباشر للحکومة علی الحرکة الاقتصادیة فی تلک الدولة وتنسیق الاستیراد والتصدیر وفق متطلبات معینة أو نحو ذلک.

وهذه الأمور جمیعها تستدعی ضمان أحد المصارف تسلیم الثمن للبائع حین یسلّم البضاعة للمشتری أو العکس، ولقاء هذه العملیة یأخذ المصرف مبلغاً من المال بنسبة مئویة معینة عوضاً عما یقوم به من أعمال واتصالات.

وقد یکون من شؤون هذه العملیة أیضاً أن المشتری حین لا یدفع الثمن له یقوم المصرف نفسه ببیع البضاعة بثمن یراه مناسباً، ویستوفی ما سلمه للبائع من الثمن وما جعله لنفسه من ربح، ویلاحظ هنا أن التاجر غالباً ما یفتح الاعتماد بعد

ص: 199

اتفاقه مع البائع علی نوع البضاعة ومواصفاتها وکمیتها، فعملیة البیع تتم بین المصدِّر والمستورد إلاّ أن فتح الاعتماد یَتم من أجل تسدید المبلغ وضمان وصول البضاعة.

وتسجل البضاعة باسم المصرف لتسهیل الأمور الضریبیة والروتینات الرسمیة المشار إلیها حیث یقوم المصرف بما یستوجبه العقد من کافة هذه الشؤون لقاء مبلغ معین.

هذه خلاصة لعملیة فتح الاعتماد والبحث فیها یقع فی مرحلتین:

الأولی: فی ما یمکن القول به من مشروعیة هذه العملیة، وتحت أی عنوان یمکن أن تندرج.

والثانیة: فی مشروعیة عمل المصرف لو باع البضاعة علی تقدیر عدم دفع المشتری ما سلمه المصرف للبائع من ثمن، وهل یصح شراء ما یبیعه المصرف فی هذه الحال؟ *** المرحلة الأولی: فی توجیهاتٍ عدة حاول الفقهاء تنزیل هذه المعاملة علیها لبیان مشروعیتها:

الأول: الجعالة ویظهر من الشیخ الحلی1 المیل إلیه، وارتضاه بعض المعاصرین وهو غریب؛ لأن الجعالة لیست لازمة علی العامل مطلقاً لا قبل شروعه

ص: 200

فی العمل ولا بعد شروعه فیه؛ إذ له أن یترکه متی شاء وإن قیل بلزومها علی الجاعل حیث یشرع العامل بالعمل _ کما رآه بعضهم _.

وفی عملیة فتح الاعتماد لا یخلو أن یکون الجاعل هو المستورد والمصرف هو العامل، وحینئذ فمقتضی الجعالة أن لا یلزم المصرف بإتمام مقتضیات العملیة، وهو خلاف المعروف؛ إذ إن المصرف ملزم قانوناً بالإتمام ولا شک.

أو یکون العکس: أی أن یکون الجاعل هو المصرف والعامل هو التاجر المستورد، وهذا غیر متصور؛ إذ کیف یتصور أن یکون التاجرهو العامل مع أنه المنتفع فی عملیة فتح الاعتماد بعمل المصرف، والمصرف هو الذی یأخذ الأجرة لقاء ما یقوم به من عمل؟ ولو غض عن هذا فإن مقتضی عملیة فتح الاعتماد إلزام التاجر بإتمام العملیة ومقتضیاتها وعقد الجعالة لا یستوجب هذا الإلزام کما قلنا.

إذن فتنزیل عملیة فتح الاعتماد علی الجعالة غیر تام.

*** الثانی: القرض، هکذا احتمل البعض ولهذا عقب علیه ببطلان المعاملة إذ هی مما یدخله الربا، فالتاجر المستورد یقترض من المصرف ما سلمه المصرف للبائع المصدر سواء أکان فی داخل البلاد أم خارجها أما الزیادة التی یأخذها المصرف فهی من الربا الممنوع فی القرض، وهو یستوجب بطلان المعاملة.

ص: 201

إلا أن هذا المحتمِل عقَّب بإمکان توجیه أخذ الربح لمشروعیته وبأن المصرف إنما یأخذه کأجرة لما یقوم به من عمل واستخدام اسمه فی البضاعة المستوردة واستلامها وإبلاغ التاجر بوصولها، أو غیر ذلک من عملیات إداریة ومصرفیة، وجمیعها من الأعمال المحترمة التی تستحق أخذ الأجرة علیها، إذن فالمصرف یقوم بعدة أعمال منها الإقراض ومنها هذه العملیات کلها وما یأخذه المصرف یمکن اعتباره أجرة علیها.

إلا أن هذا التوجیه إنما تتصور صحته لو اعتبرت الزیادة لقاء ما یقوم به المصرف من عمل ولیس مطّرداً کنسبة مئویة معینة علی المبلغ المدفوع، إلا أن المعروف من عملیة فتح الاعتماد أن الزیادة إنما تجعل مطّردة مع المبلغ ولیس لقاء ما یقوم به المصرف من عمل، فمشکلة الربا فی القرض لا یمکن تدارکها بحال مع هذا الاحتمال.

*** الثالث: البیع الصِرف، وذلک بأن یتفق التاجر المستورد مع المصرف ویکلفه هو باستیراد البضاعة التی یعینها له وبمواصفات خاصة من مصدّر معین علی أن یتعهد التاجر فی الوقت نفسه بأن یدفع له مبلغ الشراء مع زیادة محددة لقاء العملیة، وهذه العملیة بیعیة صرفة بین المستورد والمصرف، ویمکن إدراجها فی بیع المرابحة؛ إذ إن التاجر یطلب من المصرف شراء تلک البضاعة ویتعهد هو بشرائها منه لقاء ربح معین، وهی عملیة صحیحة دلت علیها بعض الأخبار منها ما رواه:

ص: 202

1_ ابن سنان عن أبی عبد الله(علیه السلام): قال: لا بأس بأن تبیع الرجل المتاع لیس عندک تساومه ثم تشتری له نحو الذی طلب ثم توجبه علی نفسک ثم تبیعه منه بعد((1)).

2_ معاویة بن عمار قال: قلت لأبی عبد الله(علیه السلام): یجیئنی الرجل یطلب (منی) بیع الحریر ولیس عندی منه شیئاً فیقاولنی علیه وأقاوله فی الربح والأجل حتی نجتمع علی شیء ثم أذهب فأشتری له الحریر فأدعوه إلیه. فقال: أرأیت إن وجد بیعاً هو أحب إلیه مما عندک أیستطیع أن ینصرف إلیه ویدعک، أو وجدت أنت ذلک أتستطیع أن تنصرف إلیه وتدعه؟ قلت: نعم، قال: فلا بأس((2)).

وحین نتصور عملیة فتح الاعتماد المصرفیة بهذا النحو بجعلها من صغریات هذه المسألة، فلا مانع حتی من أخذ الزیادة؛ إذ هی من الأرباح البیعیة المباحة، إلا أن من شرائط هذه المسألة أن التاجر غیر ملزم بإتمام المعاملة بل هو إن شاء اشتری وإن شاء لم یشتر کما أن المصرف غیر ملزم بالبیع، وهذا یختلف عن واقع عملیة فتح الاعتماد المصرفیة المعروفة، إذ کلا الطرفین ملزمان فیها بإتمامها.

***

ص: 203


1- وسائل الشیعة 18: 48 ب (8) من أبواب أحکام العقود ح1.
2- وسائل الشیعة 18: 50 ب (8) من أبواب أحکام العقود ح7.

الرابع: الضمان، وذلک بأن یتفق التاجر المستورد مع البائع المصدِّر مباشرة أو بواسطة بعض وکلائه علی نوعیة البضاعة ومواصفاتها وکمیتها، وتتم المعاملة البیعیة بینهما، ومن ثم یطلب التاجر من المصرف فتح الاعتماد.

وهذه الحالة هی الشائعة فی هذه العملیة، ولکن الحقیقة أنها لا یمکن تنزیلها إلاّ علی الضمان حیث یضمن المصرف للمصدِّر ما ثبت فی ذمة التاجر المستورد من ثمن کما یضمن للتاجر وصول البضاعة، ویقوم بموجب العقد بإتمام ما تستوجبه عملیة الاستیراد من رسوم وعملیات إداریة، والزیادات التی یأخذها المصرف إنما هی مقابل هذه العملیات کلها، أما البضاعة فهی ملک خالص للمشتری.

أما حیث لا یوفی التاجر المستورد ما حقَّ علیه، ویضطر المصرف لبیع البضاعة فإن عمله هذا یکون من المقاصة أو ینزل علی الرهن حیث تکون البضاعة رهناً لدی المصرف مقابل ما دفعه المصرف للبائع المصدِّر من ثمن، وهذا لا إشکال فیه إلا من ناحیة واحدة سبقت الإشارة إلیها فی مبحث الکفالة المستحدثة، وهی ما اشتهر بین الفقهاء _ بل لم یعرف له مخالف _ من أن الضامن لیس له علی المضمون عنه سوی ما دفعه للمضمون له، وهذا یقتضی عدم استحقاق المصرف سوی ما دفعه البائع المصدِّر من ثمن من دون زیادة بینما المعروف فی فتح الاعتماد أن للمصرف زیادة معینة علی ما یدفعه کنسبة ثابتة؛ ولهذا کان فتح الاعتمادات من أهم مصادر التمویل المصرفی فی مختلف أنحاء العالم.

ویستند المشهور فی الحکم المتقدم إلی ما رواه:

ص: 204

الشیخ رحمه الله بسنده عن عمر بن یزید قال: سألت أبا عبد الله(علیه السلام) عن رجل ضمن عن رجل ضماناً ثم صالح علیه قال: لیس له إلا الذی صالح علیه((1)).

ورویت بطرق أخری ذکرناها وبینا الخدشة فی سندها فی بحث الکفالات المستحدثة فراجع.

ولکن الإنصاف _ مع قطع النظر عن سندها_ أن الروایة أجنبیة عما نحن فیه؛ لأن موردهما ما إذا دفع الضامن إلی المضمون له أقل مما ضمنه فی العقد من دون خسارة أخری أو عمل محترم یقوم به یستحق من أجله الأجرة، أما فی عملیة فتح الاعتماد المصرفیة فإن المصرف یدفع للبائع المصدر کل ما یستحق من ثمن البضاعة الذی اتفق علیه مع المشتری ویقوم بأعمال أخری مصرفیة وإداریة محافظةً علی البضاعة وإیصالها إلی التاجر المستورد وغیر ذلک، وهذه کلها أعمال وأمور تستوجب أجرة ولم تشملها الروایتان المتقدمتان وإن قلنا بصحتهما وعملنا بهما فی موردهما.

إذن فعملیة فتح الاعتماد یمکن تصحیحها باعتبارها من الضمان فلا تشکل من جهة أخذ الزیادة؛ لأنها لیست من القرض ولا من بیع المتجانسین.

نعم، هنا ملاحظة مهمة ینبغی الالتفات إلیها وهی أن المعروف من عملیة فتح الاعتماد هی تصاعد نسبة الفائدة التی یأخذها المصرف بملاحظة کل من المبلغ والمدة التی تبقی ذمة التاجر المستورد مشغولة به، فالفائدة السنویة ولتکن 20%

ص: 205


1- تهذیب الأحکام 6: 181 ب (84) الکفالات والضمانات ح7.

مثلاً تتصاعد کلما تضاعف المبلغ فی ذمة التاجر المستورد إذا دفعه المصرف للبائع، کما تتصاعد کلما تأخر هذا التاجر بالوفاء به، إلا أن هذا لا یستوجب إشکالاً ما دامت المعاملة ضمانیة ولم تکن من القرض _ کما بینا _.

*** الخامس: الحوالة، بمعنی أن یکون التاجر محیلاً للبائع المصدّر علی المصرف فیکون هذا محالاً علیه، فالتاجر یشتری البضاعة من البائع ثم یحیله فی قبض الثمن علی المصرف.

والمصرف تارة یکون مشغول الذمة للتاجر المستورد قبل عملیة فتح الاعتماد، وقد لا یکون، ففی الحالة الأولی تکون من الحوالة علی مشغول الذمة للتاجر المستورد، بینما تکون فی الحالة الثانیة من الحوالة علی البریء.

وبما أن الحوالة تختلف عن القرض فإن الربا لا یدخلها، ولا سیما مع قیام المصرف بما تستوجبه عملیة فتح الاعتماد من مستلزمات وإن عینت الزیادة کنسبة مئویة متصاعدة مع کمیة المبلغ والمدة التی یتأخر فیها فی ذمة التاجر المستورد، إلا أن هذا لا یستوجب إشکالاً، ولعل هذا التوجیه أسلم من تنزیل المعاملة علی الضمان، وإن اعتبرنا الضمان صحیحاً أیضاً کما سبق.

***

ص: 206

السادس: الشرط أی أن یشترط البائع أو المشتری أو کل منهما أن یکون المصرف هو المستلم للبضاعة والمسلم للثمن ثم یفتح الاعتماد لتحقیق ذلک الشرط، فما یجری بین البائع المصدِّر والتاجر المستورد معاملة بیعیة بینما ما یجری بین التاجر والمصرف هو معاملة إجارة، وما یدفعه التاجر للمصرف من الزیادة هو أجرة له علی ما یقوم به من عمل إلا أن هذا الاحتمال بعید.

ولا بد من التنبیه فی النهایة علی أن هذه الاحتمالات کافة إنما تجری مع المصرف الأهلی المحض أو الحکومی کلاً أو جزءاً بناء علی المختار من ملکیة الدولة لما تحت یدها من أموال، أما مع البناء علی ما اختاره الأعلام من عدم ملکیة الدولة لما تحت یدها فقد تقدم أن له حدیثاً آخر سبق فی المقدمة سواء کان المصرف کله حکومیاً أو بعضه.

*** المرحلة الثانیة: فی صحة بیع المصرف للبضاعة التی دفع ثمنها ولم یعرف التاجر المستورد ما دفعه المصرف من ثمن ورسوم أو ما استحقه علیه من أجرة.

والحدیث فی هذه المرحلة قد اتضح مما سبق؛ إذ لا مانع من تصدی المصرف للبیع کما لا إشکال فی شرائها منه؛ إذ له حق المقاصة، کما أن توقیع التاجر المستورد علی عملیة فتح الاعتماد مع علمه باستلزامها مثل هذا البیع عند تأخره عن دفع ما علیه یعتبر کتوکیل للمصرف فی البیع لاستیفاء حقه.

ص: 207

ص: 208

التأمین

من القضایا التعاملیة التی شاعت فی العالم فی العصور المتأخرة قضیة التأمین، فلا یکاد یخلو بلد من البلدان من هذه المعاملة، ویُعنی بها أن تتعهد جهة من الجهات _ وغالباً ما تکون إحدی الشرکات أو فرع من فروع المصارف _ بتعویض الضرر الذی تحدثه الحوادث فی إحدی النفوس أو فی أموال معینة مقابل بدل محدد یدفع لتلک الجهة.

والتأمین المعروف نوعان:

1_ تأمین علی الحیاة.

2_ تأمین علی الأموال کالمصانع والطائرات والعقار وغیرها، وأرکانه المعروفة أربعة:

1_ الجهة المتعهدة ویعبر عنها (بالمؤمّن)_ بالکسر وتشدید المیم _ وهی الجهة التی تتعهد بتلافی الضرر ودفع التعویض حین حدوث ما یستوجب التلافی والتعویض.

2_ المال أو النفس التی یؤمن علیها أی أن تکون هی موضوع عملیة التأمین، فلو تعرضت لحادث من الحوادث کالموت فی النفس أو غرق أو حرق أو تلف

ص: 209

من أحد الأسباب التی تذکر فی العقد وجب علی الجهة المتعهدة _ بمقتضی العقد _ دفع التعویض أو تلافی الضرر.

3_ المؤمَّن له، وهو الشخص أو الجهة التی تستحق التعویض الذی تدفعه الجهة الأولی عند حدوث ما یستوجب دفع التعویض.

4_ المال الذی یدفع للجهة الأولی کأجرةٍ علی العملیة أو عوض عنها، وهذا المال قد یدفع مرة واحدة وقد یدفع أقساطاً سنویة حسب ما یتفق علیه الطرفان.

فزید_ مثلاً_ حینما یرید التأمین علی سیارته التی یملکها یتفق مع مصرف أو شرکة تأمین علی إجراء العقد لفترة معینة _ کعشر سنوات _ مقابل أن تأخذ الجهة المتعهدة بدلاً عن هذه العملیة کألفی دینار مثلاً یسلمها زید دفعة واحدة أو أقساطاً سنویة، فلو تعرضت هذه السیارة لحادث الطرق أو سرقة أو حریق أو غیر ذلک فی فترة العقد فإن الشرکة تدفع لزید قیمة السیارة التی عینت فی عقد التأمین کمبلغ عشرة آلاف دینار مثلاً، أو تدفع إلی ورثته لو توفی زید فی تلک الفترة.

ومثل هذا کذلک التأمین علی الحیاة، فلو أراد شخص أن یؤمن علی حیاته بمبلغ معین کعشرة آلاف دینار مثلاً لفترة عشرة سنوات لو تعرض لحادث من الحوادث أو علی بعض أطرافه أو أعضاء جسمه مقابل أن یدفع للشرکة ألفی دینار دفعة واحدة أو أقساطاً معینة، فحین تتعرض حیاته أو أطرافه المؤمن علیها فی فترة التأمین تدفع الشرکة له أو لورثته المبلغ المؤمّن علیه.

وطبیعی أن تختلف شروط التأمین بحسب الشرکات أو الدول أو الأشخاص أو الظروف التی تکتنف العملیة، إلا أن العناصر العامة فی العملیة متشابهة

ص: 210

وتجمعها هذه الأرکان الأربعة المتقدمة، فهی موجودة فی کافة عملیات التأمین مهما اختلفت الأنواع _ حسب التتبع _.

وهنا جهات رئیسیة لا بد من الحدیث عنها:

الجهة الأولی: هل هذه العملیة مشروعة أو لاً؟ حاول الشیخ الحلی1 تصحیح عملیة التأمین بإرجاعها إلی الضمان تارة وإلی الصلح أخری، وإلی الهبة المعوضة بشرط الخسارة ثالثة، أو جعلها عقداً مستقلاً یمکن أن یصحح بما فی أدلة العقود من عمومات.

ولکن المناقشة واردة فی معظم هذه التصورات.

أما جعلها عقداً مستقلاً فقد سبق أن العقود المستحدثة التی لم تعرف فی زمن صدور الأدلة الشرعیة لا دلیل علی شمول تلک الأدلة لها؛ إذ هی غیر مقصودة فی البیان لیشملها الإطلاق کما هو واضح.

وهکذا إرجاع العملیة إلی الصلح فإن أدلته لا شمول فیها لکافة المعاملات غیر تلک التی تعنی بالإصلاح بین الناس ورفع الخصومة الفعلیة أو المتوقعة حیث یمکن أن یکون الموضوع منشأ لها ما لم یرفع، وما یقال من شمول الصلح لکافة المعاملات لا أثر له فی أدلة الصلح.

وأما الهبة المعوضة بشرط الخسارة بمعنی أن ما یدفعه طالب التأمین إنما هو هبة منه للجهة التی أجری معها العقد، ویشترط علیها أن تدفع عوضاً عما یجعله فی عهدتها من مال أو حیاة إن حدث له حادث یستوجب ضررها أو تلفها، وهذا التوجیه وإن أمکن تصوره نظریاً إلا أنه یرد علیه عدة إیرادات:

ص: 211

الأول: ما کررناه مراراً من أن معنی العقد لا بد أن یقصد من کل من طرفی العقد، ومثل هذه الهبة لم تقصد من أی من الطرفین فی المعاملات الشائعة.

الثانی: أن مثل هذه المعاملة التأمینیة تخالف ما عرف من الهبة ودرج علیه الناس ووردت فیه الأدلة؛ ولهذا فإن الأدلة قاصرة الدلالة عن تصحیحها.

الثالث: أن الهبة المعوضة ملزمة لکل من طرفی العقد، وتنزیل عملیة التأمین علیها یقتضی لزومها علی کل من طالب التأمین والمتعهد به، ولکن المعروف أن هذه العملیة غیر لازمة بالنسبة إلی طالب التأمین؛ فإن له أن یمتنع عن تسدید أقساط التأمین، وحینئذ یفقد عقد التأمین ما حصل له من أثر، ولا یلزم المتعهد بدفع التعویض المطلوب، وهذا لا یتطابق مع مقتضی الهبة المعوضة.

وغریب من الشیخ الحلی1 أن یذکر مثل هذا الاحتمال مع هذه الملاحظات الواضحة.

وأما الضمان فقد جهد الشیخ الحلی1 وبعض المعاصرین علی تنزیل عملیة التأمین علیه، والظاهر أن هذا التنزیل ممکن ولا ریب فیه، إلا أنهما عقبا بالتساؤل عن ضرورة وجود مضمون عنه فی عقد الضمان حیث لا یتراءی لهما وجود مضمون عنه فی عملیة التأمین فلیس فیها غیر الجهة المتعهدة وهی الضامن والمستحق للتعویض وهو المضمون له، وأما المضمون عنه فلا یوجد، فإن قیل بضرورة وجود المضمون عنه کشرط أو رکنٍ لصحة الضمان أشکل القول بتنزیل التأمین علیه، وخَلُصَا إلی نفی ضرورة تصور المضمون عنه لتصحیح عملیة الضمان فی التأمین.

ص: 212

ولکن هذا التعقیب لیس فی محله؛ إذ یمکن اعتبار طالب التأمین مضموناً عنه وفی الوقت نفسه هو مضمون له باعتبار حیثیتین مختلفتین، فهو من حیث إنه یستفید من عملیة الضمان (التأمین) مضمون عنه، ومن حیث کونه الذی یدفع إلیه تعویض ما یقع علی المضمون من ضرر هو مضمون له، فطالب التأمین حیث لا یرید لسیارته أن تذهب هدراً یؤمن علیها لیحتفظ بالفائدة فیها حین تتعرض لحوادث تودی بها، فهو من حیث احتفاظه بهذه الفائدة مضمون عنه وحَیث یقع الحادث وتدفع الجهة المؤمّنة تعویضها یکون هو المضمون له.

هذا بالنسبة إلی تصور المضمون عنه فی عملیة التأمین، ولکن قد یرد تساؤل عن أن وجود المضمون عنه هل هو ضروری أو غیر ضروری فی عملیة الضمان فیکون أجنبیا عن مورد الحدیث؟ وللجواب عن ذلک لا بد من الإشارة إلی أن للضمان معنیین:

أحدهما: المعنی المتعارف فی الفقه، والذی عرف بأنه: نقل المال من ذمة إلی ذمة أخری، وهذا التعریف هو مما تسالم علیه علماء الإمامیة، وفی مثله یرد التساؤل المتقدم هل أن وجود المضمون عنه ضروری کرکن فی عملیة الضمان أو شرط فیها أو لا هذا ولا ذاک.

ثانیهما: هو التعهد بدفع عوض ما لم یجب دفع المعوض فیه کما فی ضمان قیمة العین المستعارة حین تتلف لا عن تقصیر وإن کان بآفة سماویة، فالضمان هنا لیس من نقل المال من ذمة إلی ذمة أخری بل هو التعهد بخسارة العوض.

ص: 213

وهذا المعنی من الضمان موجود فی کلمات الفقهاء بل هو موجود فی لسان بعض الروایات، کما ورد فی العاریة حیث روی:

الشیخ1 فی التهذیب بسنده عن الحلبی عن أبی عبد الله(علیه السلام) قال: صاحب الودیعة والبضاعة مؤتمنان وقال: إذا هلکت العاریة عند المستعیر لم یضمنه إلا أن یکون قد اشترط علیه((1)).

ومثلها العدید من روایات الباب((2)).

وعلی أی حال فإن الضمان بهذا المعنی مما لا إشکال فی صحته، وینزل التأمین علی هذا المعنی الثانی من الضمان فلا حاجة حینئذ لتصور مضمون عنه فی هذا المعنی.

ویمکن أن تصحح عملیة التأمین کذلک بتنزیلها علی الجعالة، فالتأمین _ کما قلنا _ لیس لازماً بالنسبة لطالب التأمین، فهو بدفعه الأقساط التی تطلبها منه الجهة المتعهدة یعتبر کالعامل فی الجعالة فیستحق ممن له العمل ما جعل له، فکأن تلک الجهة تجعل لمن دفع لها مالاً معیناً القیام بتعویض مال أو حیاة شخص معین إن تعرض لبعض الحوادث المتلفة خلال فترة معینة، فهی لازمة بالنسبة لتلک الجهة علی تقدیر قیام العامل بما علیه من دفع المال المعیّن، إما مرة واحدة أو أقساطاً بینما یبقی لطالب التأمین حق الانسحاب متی شاء قبل تأدیة تمام جمیع المال.

إذن فعملیة التأمین صحیحة علی أحد الوجهین الأخیرین.

ص: 214


1- تهذیب الأحکام 7: 165 ب (17) العاریة ح805.
2- تهذیب الأحکام 7: 164 _ 165 ب 017) ح798 وح802 و803 وغیرها.

الجهة الثانیة: یلاحظ أن هناک اختلافاً بین شرکات التأمین والهیئات التأمینیة الأخری التی تتعاطی هذه العملیة، ففی بعضها لیس لطالب التأمین سوی مبلغ التعویض الذی التزمت الجهة المتعهدة بدفعه حین حصول حادث یستوجب دفع هذا التعویض.

وهذا لا کلام فیه سوی ما سبق من التوجیه، وقد قلنا بصحته إما بتنزیله علی الضمان أو الجعالة إلا أن عملیات التأمین الشائعة الآن لا تقتصر علی هذا الدفع فقط، بل إن الجهات المتعهدة غالباً ما تدفع أرباحا معینة لما یدفع إلیها من أموال کنسبة مئویة سنویة، فطالب التأمین له الحق فی استلام هذه النسبة طردیاً مع مقدار ما یسلمه لتلک الجهة من أموال، وطبیعی أن یتساءل عن مشروعیة هذه الأرباح وعن الوجه فیها.

ویبدو أن الشیخ الحلی1 لم یجد توجیهاً لمثل هذا الربح المدفوع؛ ولذلک ردده بین القرض والمضاربة، ولما کان لکل من الوجهین ملابساته لم یکن تصحیح استلام الربح علی واحد منهما.

فعلی تقدیر اعتبار ما یدفعه طالب التأمین للجهة المتعهدة من القرض کانت الفائدة ولا شک من الربا المحرم؛ إذ القرض مع شرط الفائدة محرم من دون إشکال، فلو کانت الشرکة مملوکة لأشخاص أو قیل بملکیتها للحکومة وقلنا بملکیة الدولة کانت الأرباح من الربا، وأما إذا کانت مملوکة للدولة وقلنا بعدم ملکیتها لما تحت یدها من أموال کان ما یستلم من شرکة التأمین من الأموال مجهولة المالک فیرجع بها إلی الحاکم الشرعی کما اختاره هو1.

ص: 215

وکذلک لو اعتبر ما یدفعه طالب التأمین لتلک الجهة من المضاربة فإن الإشکال یرد علیه بأن من شرائط مال المضاربة _ علی المشهور وادعی علیه الإجماع _ أن یکون من نقدی الذهب والفضة المسکوکین، وما یدفع من الأوراق النقدیة لا یحقق مثل هذا الشرط فلا تکون مضاربة.

وهذا التردید_ أو بالأحری التردد_ من الشیخ الحلی1 غریب فکل من القرض والمضاربة غیر محتمل هنا؛ إذ من شرائط القرض أن یعاد المبلغ للمقرض بعد فترة زمنیة محددة، ولا یوجد مثل هذا الشرط فی مبالغ التأمین؛ إذ هی إما لا تعاد لطالب التأمین البتة، أو أنها تعاد فی فترة غیر محددة، نعم یمکن إعادة المبلغ فی بعض صور التأمین النادرة، إلا أن القضیة لیست کلیة.

وأما المضاربة فمع غض النظر عما سبق من إشکال فإن من شرائطها اقتسام الربح حین یتحقق بین العامل وصاحب المال کما لا تجبر الخسارة بالأرباح التی تحصل بعدها، وهذا مفقود فی المال الذی یدفع للجهة المؤمنة؛ إذ هذه تدفع أرباحاً معینة لمن یدفع إلیها المال من العملاء سواء أتجرت به أم لم تتجر وسواء ربحت فی معاملاتها به أم خسرت، وسواء کثر الربح أم قل فهی تدفع تلک النسبة مع غض النظر عن کل تلک الاحتمالات، إذن فالمعاملة أجنبیة عن المضاربة کلیة.

هذا مع أن الشیخ الحلی1 قد صحح عملیة التأمین بتنزیلها علی الهبة المعوضة أو الضمان، وحینئذ فما یدفع للجهة المتعهدة إما هبة أو أجرة للضمان، وفی الحالتین لا قرض فیهما ولا مضاربة، فهو ملک لتلک الجهة ومن أموالها، أما ما

ص: 216

تعطیه تلک الجهة من الأرباح فهو إما هبة أو جزء من التعویض الذی ضمنته لطالب التأمین، وفی الحالین لا إشکال فی جواز الاستلام.

الجهة الثالثة: هناک نوع من التأمین یعبر عنه بالتأمین بالمقابل وهو أن یشترک جماعة من التجار أو ذوی المصانع والمصالح فی جمع کمیة معینة من المال تکون مشترکة بینهم، ویفتح بها معاملات لاستدرار أرباح لهم، وتکون الغایة الأولی من جمع هذا المال هو جبران خسارة من یخسر منهم أو یتعرض لحادث یستوجب تلف تجارته أو مصانعه، فهل یمکن تصحیح هذه العملیة أو لا؟ والشیخ الحلی1 کأنه لم یجد منفذاً یصحح علی أساسه هذه العملیة، إلا بجعلها عقداً مستقلاً، ولکننا حیث لم نرَ شمولاً فی إطلاقات أدلة العقود یستوعب مثل هذه العملیات المستحدثة فلا نقول بصحة کل عقد مستحدث ما لم یندرج فیما عهد من معاملات فی زمن أدلة العقود.

إلا أن هذا النوع من التأمین یمکن أن یدخل فی الضمان بمعناه الثانی المتقدم؛ إذ إن أولئک الذین جمعوا ذلک المال لهذا الغرض کان کل واحد منهم قد تعهد بدفع حصة معینة من خسارة من یخسر منهم حین تحققها، کما أنه یمکن تنزیلها علی الهبة فکل منهم یهب جزءاً من عوض تلک الخسارة، إذن فلا إشکال فی هذا النوع من التأمین کذلک.

الجهة الرابعة: من أنواع التأمین کذلک ما یسمی بالتأمین علی التأمین، وصورته أن تطلب إحدی شرکات التأمین الصغری التأمین علی نفسها من شرکة أکبر مقابل بدل معین تدفعه إلیها، والغایة من هذه المعاملة توزیع ما یصیبها من

ص: 217

خسارة بینها وبین تلک الشرکة الکبری، فتکون بمأمن من الإفلاس لو تکاثرت الحوادث التی تستوجب دفع مبالغ التعویض مرة واحدة أو فی أزمنة متعاقبة، وبالأخص حین یمتنع بعض العملاء عن دفع ما علیهم من أقساط التأمین، فحین تشترک هی وتلک الشرکة الأکبر فی دفع التعویض کان شبح الإفلاس عنها أبعد.

بل إن التأمینات قد تترامی حیث تؤمن الشرکة نفسها لدی شرکة أخری وتؤمن هذه الشرکة نفسها لدی أخری وهکذا، بل قد یدور التأمین علی الشرکة الأولی، فتؤمن کل من الشرکات نفسها لدی الأخری، ولا مانع من کل هذه العملیات بعد أن صححنا عملیة التأمین نفسها بواحد من الوجهین المتقدمین والحمد لله رب العالمین وصلی الله علی محمد وآله الطاهرین.

***

ص: 218

مصرف الدم والأعضاء والنطف

سبق أن قلنا فی مقدمة الحدیث عن المصارف إن هذا النوع من المصارف لا یتفق مع الأنواع الأخری إلا بإطلاق الاسم فقط؛ إذ العنصر المشترک بین هذا النوع والأنواع الأخری مفقود، فبینما تعتمد تلک الأنواع علی المال والمالیات وتصریف شؤونها بنحو ما سبق من الحدیث هناک لا یکاد یمثل المال فی هذا النوع أی عنصر رئیسی بل الحدیث فیه منصب علی جواز انتزاع هذه الأجزاء من الإنسان والحیوان، أو جواز المعاوضة علیها أو زرعها فی أجسام الآخرین، وشبه هذه النواحی.

ونظراً لاختلاف الحدیث فی الدم وقسیمیه، واختلاف الحدیث کذلک بین الأعضاء والنطفة کان لا بد من إفراد کل واحد من هذه فی فصل مستقل، فیقع الکلام فی فصلین:

***

ص: 219

ص: 220

الفصل الأول فی مصرف الدم

الفصل الأول: فی مصرف الدم

ولابد من الوقوف فی الحدیث فیه علی أمور:

الأمر الأول: فی جواز أخذ الدم من الإنسان الحی والحیوان الحی کذلک، أما فی الإنسان فیمکن الاستدلال علی إباحة أخذ الدم منه بأدلة الإباحة العامة؛ إذ هی مما یمکن جریانها فی المورد إذا لم یعارضها من الأدلة ما یمکن به رفع الید عن شمولها لمثله کما أن مقتضی البراءة إباحة مثل هذا العمل، ولا نری إشکالاً فیه.

إلا أن البعض کالسید محسن الأمین أصر علی القول بالحرمة تبعاً للشهید1 فی القواعد؛ إذ أفتی بحرمة جرح الإنسان نفسه لعدم العلم بإباحة الجرح وحرمة إیذاء النفس((1))، وما استدل به أو ما یمکن أن یستدل به علی هذه الحرمة أوجه:

الأول: استقلال العقل بحکمه علی قبح إیذاء النفس مما یکشف عن الحکم الشرعی بالحرمة أیضاً.

ص: 221


1- القواعد والفوائد 1: 231 _ 232.

وفیه: أن الحکم العقلی بالقبح وإن سلم فی الجملة إلا أن المتیقن منه ما إذا کان الجرح من دون وجود غرض عقلائی مبیح لتحمل مثل هذا الإیذاء، ویکفینا ما نراه من تحمل صلحاء البشریة الکثیر من المشاق والشدائد من أجل إصلاحها أو التعبد لله، فهذا خیر دلیل علی انتفاء حکم العقل بالقبح فی هذه الحال بل إن هذا التحمل دلیل علی حکم العقل بحسن التعرض للأذی لو ترتب علیه غرض أهم، وکم من الروایات التی وردت فی تحمل النبی(صلی الله علیه و آله) المشاق والشدائد فی سبیل إنجاح ما حمل من مسؤولیة حتی استوجب منه أن یشد حجر المجاعة علی بطنه؟ وقد قام(صلی الله علیه و آله) للعبادة حتی تورمت قدماه، ونزل فی حقه: [طه مَا أَنزَلْنَا عَلَیْکَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَی]((1))، ونزل فی حقه(صلی الله علیه و آله) قوله تعالی: [وَوَضَعْنَا عَنکَ وِزْرَکَ الذی انقض ظهرک]((2))، إلی الکثیر مما ورد فی هذا المعنی.

وکذلک الروایات الواردة فی أحوال أئمة الحق: ومبلغ ما تحملوه: من محن وشدائد فی سبیل إعلاء کلمة الله أو فی عبادة خالقهم، ومنها ما ورد فی حج الحسنین8 کثیراً من المرات مشیاً علی الأقدام والنجائب تقاد بین أیدیهما((3)).

ص: 222


1- سورة طه: 1 _ 2.
2- سورة الانشراح: 2 _ 3.
3- جاء فی مختصر تاریخ دمشق 7: 23 _ 24.. ولقد حج الحسن بن علی خمساً وعشرین حجة ماشیاً وأن النجائب لتقاد معه وفی نفس الجزء ص129 وورد أن الحسین بن علی حج ماشیاً خمساً وعشرین حجة ونجائبه تقاد معه.

ویدخل بهذا الصدد ما ورد فی فضل زیارة الحسین(علیه السلام) مشیاً علی الأقدام علی الزیارة رکوباً((1))، أو ما ورد من أن «أفضل الأعمال أحمزها»((2))، بل ویدخل فی هذا الکثیر من التکالیف الشرعیة التی لا بد لإتمامها من المشقة والکلفة کالحج والصوم والجهاد وشبهها.

وبَعدُ، فالعقلاء فی شؤونهم لا یستنکرون تحمل المشاق مع الاطمئنان العادی بعدم العطب؛ إذ لم ینکروا علی التجار رکوبهم البحر طلباً للربح والثروة.

إذن فحکم العقل فی قبح إیذاء النفس غیر مسلم إلا فی مورد لا یکون هناک من الأغراض العقلائیة ما یعادل ذلک الإیذاء ویستوجب المشقة، فلو کانت هناک نفس محترمة لا تنقذ إلا بکمیة من الدم لا تُوْدِی بحیاة المتبرع ولا یصاب من أجل إخراجها بضرر لا یحتمل لا یمکن القول بحرمة إخراج مثل هذه الکمیة لحکم العقل، بل یمکن القول بالعکس فیه کما رأینا.

الثانی: قول النبی(صلی الله علیه و آله): لا ضرر ولا ضرار((3)) بدعوی شموله لحرمة کافة أنحاء الإضرار بالنفس والغیر، ولا شک أن الجرح وإخراج الدم من تلک الأنواع من الأضرار.

وفیه: أن منطوق هذه الأحادیث کالصریح فی أن المحرم إنما هو الإضرار بالغیر من دون رضاه، ویشهد بهذا التوجیه مورد الروایات الوارد فیها مثل هذا المنطوق کما فی قصة سمرة بن جندب المشهورة مع النبی(صلی الله علیه و آله) کما رواه:

ص: 223


1- تصحیح اعتقادات الإمامیة 5: 96 ب (48) فی زیارة الحسین بن علی صلوات الله علیه وشرائطها.
2- بحار الأنوار 67: 191 ب (53) النیة وشرائطها.
3- کنز العمال 4: 59 ح9498، المقنع للصدوق: 537، والکافی 5: 281 ب (138) ح4.

زرارة فی الموثق عن أبی جعفر(علیه السلام) قال: إن سمرة بن جندب کان له عذق فی حائط لرجل من الأنصار، وکان منزل الأنصاری بباب البستان، وکان یمر إلی نخلته ولا یستأذن، فکلّمه الأنصاری أن یستأذن إذا جاء، فأبی سمرة، فلما تأبی جاء الأنصاری إلی رسول الله(صلی الله علیه و آله) فشکا إلیه وخبره الخبر، فأرسل إلیه رسول الله(صلی الله علیه و آله) وخبره بقول الأنصاری وما شکا وقال: إن أردت الدخول فاستأذن فأبی، فلما أبی ساومه حتی بلغ له من الثمن ما شاء الله فأبی أن یبیع، فقال: لک بها عذق مذلل فی الجنة، فأبی أن یقبل، فقال رسول الله(صلی الله علیه و آله) للأنصاری: اذهب فاقلعها وارمِ بها إلیه، فإنه لا ضرر ولا ضرار((1)).

إذن فلا شمول فی قاعدة لا ضرر لمثل هذا المورد کما هو واضح.

الثالث: دعوی استقراء أقوال الفقهاء فی موارد متعددة من الفقه یستکشف منها حرمة الإضرار بالنفس دائماً ومن هذه الموارد:

أ_ قولهم بوجوب دفع الضرر المحتمل أو المظنون.

ب _ سقوط التکلیف باحتمال الضرر احتمالاً یعتد به.

ج _ بطلان الصوم مع المرض أو ظنه ظناً یُعتد به.

د_ حرمة السفر مع الضرر المحتمل فیه.

ولکن یرد علی الأول من هذه الموارد أن الضرر المراد فیه هو الضرر الأخروی أو العقاب الإلهی لا کل ضرر، وقد سبق أن من الأحکام ذاتها ما بنی علی المشقة والجهد کالجهاد والحج وغیرهما.

ص: 224


1- تهذیب الأحکام 7: 133 ب (10) ح36.

وأما المورد الثانی فهو لیس من محل الکلام؛ إذ سقوط التکلیف مع احتمال الضرر إنما هو من موارد الامتنان الإلهی علی العباد، فحیث یکون فی الإلزام ضرر ومشقة من الله علی العباد یرفع هذا الإلزام عنهم.

ویلاحظ هنا أن هذا الارتفاع لیس لکل تکلیف إلهی کما عبر عنه، بل هو خصوص التکلیف الإلزامی وإلا فإن التکالیف غیر الإلزامیة لا ترتفع بهذا العسر والحرج کما أن إباحة الأشیاء لا ترتفع بالضرر ما لم تصل المشقة فیه إلی حد العطب والتهلکة أو خوفها، وما نحن فیه من هذا القبیل کما هو الفرض، إذ لا إشکال فی حرمة إخراج الدم فی حال تأدیته إلی التهلکة والموت أو خوفهما.

وأما مثال الصوم فهو أجنبی کذلک عما نحن فیه؛ إذ إن عدم المرض أخذ فی موضوع التکلیف به کما صرحت الآیة به [فَمَن کَانَ مِنکُم مَّرِیضاً أَوْ عَلَی سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَیَّامٍ أُخَرَ]((1))، فحیث یکون المکلف مریضاً لا یتحقق فیه موضوع الصوم فلا یصح منه کما لو کان مسافراً.

والکلام نفسه یأتی مع حرمة السفر فی حال احتمال الضرر؛ إذ لم یقل أحد بحرمته ما لم یصل الضرر إلی حد التهلکة فیه أو احتمالها، ولا کلام لنا فی هذه الحالة کما أشرنا.

الرابع: ما روی مرسلاً عن الباقر(علیه السلام): فبعد أن قسم فیه ما أخرجته الأرض إلی ثلاثة أقسام ذکر عنه(علیه السلام) قوله: وکل شیء من هذه الأشیاء فیه غذاء للإنسان ومنفعه وقوة فحلال أکله، وما کان منها فیه المضرة فحرام أکله إلا فی حال التداوی...((2))

ص: 225


1- البقرة: 184.
2- مستدرک الوسائل 16: 361 ب (32) من أبواب الأطعمة ح1 نقلاً عن دعائم الإسلام 2: 122.

وفیه _ مع قطع النظر عن ضعف السند لما فیها من إرسال _:

أولاً: أن هذه الروایة ناظرة إلی حکمة حلیة ما هو محلل من الطعام، وحرمة ما هو محرم منه، مما یعنی أن الشارع المقدس لم یحلل شیئاً إلا لما فیه من نفع کما أنه لم یحرم شیئاً إلا لما فیه من مضرة وهذا أجنبی عما نحن فیه.

ثانیاً: أن الروایة نفسها صرحت بجواز تناول ما هو محرم وضار عند الضرورة کما لو استوجبه التداوی من علة، ولعل هذا یقرب مما نحن فیه إذ إخراج الدم وإنْ حرم حیث ینتفی الغرض العقلائی المحلل إلا أنه یباح حیث تقتضی الضرورة إخراجه کما لو توقف علیه إنقاذ نفس محترمة فی وقت لا یسبب خللاً فی جسم صاحبه.

الخامس: ما رواه الشیخ الکلینی وغیره عن أبی عبد الله(علیه السلام) فی حدیث مطول: «ولکنه خلق الخلق وعلم(عزوجل) ما تقوم به أبدانهم وما یصلحهم فأحله وأباحه تفضلاً منه علیهم به تبارک وتعالی لمصلحتهم، وعلم ما یضرهم فنهاهم عنه وحرَّمهُ علیهم، ثم أباحه للمضطر وأحله له فی الوقت الذی لا یقوم بدنه إلا به فأمره أن ینال منه بقدر البلغة لا غیر ذلک»((1)).

ویرد علیه ما أوردناه علی الحدیث المتقدم فهو بصدد بیان الحکمة فیما حلل من الأطعمة وحرم منها، ولیس لبیان حرمة کل ضرر ولا سیما إذا ترتب علی ترکه ضرر أعظم، کما أن فی الروایة نفسها شواهد علی هذا تستبین لمن یراجع الروایة.

کما یلاحظ أن الروایة نفسها تعقب بحلیة ما حرم من أجل رفع الضرورة المستوجبة لارتکاب المحرم، وما نحن فیه قریب من هذا _ کما قلنا_.

ص: 226


1- الکافی 6: 245 ب (1) من أبواب الأطعمة ح1.

إذن فسحب الدم مباح حیث لا مانع شرعیاً منه حین یکون لسحب الدم فائدة عقلائیة کإنقاذ نفس محترمة.

*** الأمر الثانی: فی ثبوت الغرامة علی استخراج الدم من الإنسان.

یلاحظ أن مورد الأدلة علی ثبوت الغرامة فی الجروح یختص بصورة عدم رضا الشخص الذی یجنی علیه به ولا أقل من انصرافها عن غیر هذا المورد، ومثلها أدلة القصاص فهی جمیعها واردة فیما إذا فقد المجنی علیه أحد أعضائه أو أصیب ببعض الجراح من دون رضا منه، وأما إذا تولی ذلک بنفسه مباشرة أو تسبیباً فلا دلیل علی الغرامة فی مورده.

وینبغی الانتباه إلی أن کلاً من الأمرین الأول والثانی مختصان بالإنسان الحی.

الأمر الثالث: فی جواز أخذ الدم من المیت والغرامة علیه.

أما الجواز فیلحظ فیه أن سحب الدم من المیت قد یکون بعد رضا منه نفسه قبل وفاته وقد یکون من دون وجود مثل هذا الرضا.

فلو أحرز الرضا منه قبل وفاته لجری فیه ما سبق فی الأمر الأول من الحدیث، فلا إشکال فی الجواز، أما لو لم یحرز هذا الرضا فقد یستدل علی الجواز فیه بعدة أدلة:

الأول: أدلة الإباحة، ولا تعارضها أدلة حرمة إیذاء المسلم فإنها لا تعمه؛ لفقدان الحیاة فی المیت التی هی منشأ الألم فی الإنسان الحی فتبقی أدلة الإباحة من دون معارضة.

ص: 227

الثانی: ما رواه الحسین بن زرارة فی المعتبر عن أبی عبد الله(علیه السلام) فی حدیث: قال وسأله أبی وأنا حاضر: عن الرجل یسقط سنه فیأخذ سن إنسان میت فیجعله مکانه؟ قال: لا بأس((1)).

ومثلها أرسلت عن زرارة عن أبی عبد الله(علیه السلام)((2)).

والاستدلال بذلک إنما یتم بإلغاء الخصوصیة فیثبت الحکم فی الدم وبقیة الأعضاء التی سیأتی الحدیث فیها فی محله.

ولکن یرد علی هذا الاستدلال:

أولاً: أن مناط الحرمة لیس هو الإیذاء لتنتفی عند انتفائه فی المیت؛ إذ لا دلیل علی هذا.

وثانیاً: أن هذا الاستدلال لو تم فهو معارض بالأخبار التی ساوت بین حرمة المسلم میتاً وحرمته حیاً بل إن منها ما عظَّم حرمة المیت علی حرمة الحی، ومن تلک الأخبار:

1_ ما رواه الشیخ الکلینی مرسلاً عن أبی عبد الله(علیه السلام) قال: قلت له: رجل قطع رأس میت، قال: حرمة المیت کحرمة الحی((3)).

2_ ما رواه بسنده عن أبی جعفر(علیه السلام) فی حدیث وفاة الإمام الحسن(علیه السلام) ودفنه قال: إن الله حرم من المؤمنین أمواتاً ما حرم منهم أحیاء((4)).

3_ ما رواه الشیخ الطوسی1 عن مسمع کردین: قال سألت أبا عبد الله(علیه السلام) عن رجل کسر عظم میت فقال: حرمته میتاً أعظم من حرمته وهو حی((5)).

ص: 228


1- وسائل الشیعة 24: 183 ب (33) من أبواب الأطعمة المحرمة ح12.
2- وسائل الشیعة 4: 417 ب (31) من أبواب لباس المصلی ح4.
3- الکافی 7: 344 ب (40) من کتاب الدیات ح3.
4- الکافی 1: 363 ب (67) من کتاب الحجة ح3.
5- تهذیب الأحکام 10: 239 ب (23) فی دیة عین الأعور... ح13.

إذن فلا یمکن القول بالجواز حیث لم یسبق رضا من المیت قبل وفاته.

وأما الغرامة فیلتفت فیها أیضاً إلی سبق رضی المیت قبل الوفاة فیجری فیها ما سبق من الحدیث فی الأمر الثانی؛ إذ مع هذا الرضا لا یحرز جریان الغرامة فی المسألة.

وأما إذا لم یسبق هذا الرضا منه فالمورد ممّا تجری فیه أدلة الغرامة من دون إشکال، وحتی لو قیل بجواز سحب الدم فی هذه الحالة فإن ما استدل به علی هذا الجواز لا یرفع أدلة الغرامة؛ إذ لیس فیها إطلاق من هذه الجهة کما لا إطلاق فی قوله تعالی: [فَکُلُواْ مِمَّا أَمْسَکْنَ]((1)) علی طهارة موضع إمساک کلاب الصید لفریستهن فلا بد من تطهیره حینئذ، کذلک هنا فلابد من الغرامة لشمول أدلتها للمورد کما هو واضح.

*** الأمر الرابع: فی بیع الدم.

والظاهر أن هذا البیع مما لیس به بأس؛ إذ غایة ما یمکن الاستدلال به علی الجواز أمور منها:

1_ ما رواه الشیخ الصدوق1 والشیخ الکلینی; بسندهما عن أبی یحیی الواسطی رفعه قال: مرَّ أمیر المؤمنین(علیه السلام) بالقصابین فنهاهم عن بیع سبعة أشیاء من الشاة: نهاهم عن بیع الدم..إلخ((2)).

ص: 229


1- المائدة: 4.
2- الخصال للصدوق 2: 341 باب السبعة ح4، الکافی 6: 256 ب (7) حکم الذبائح ح2.

وفیه: مضافاً إلی ضعف السند ظهوره _ بقرینة أن الخطاب کان للقصابین _ فی أن المنع إنما هو لأجل الأکل المحرم شرعاً؛ لأنه هو الفائدة المتعارفة فی تلک الأزمنة لا سیما فی الذبیحة.

2_ عموم التعلیل فیما رواه الشیخ الکلینی بسنده عن محمد بن مسلم عن أبی عبد الله فی حدیث، قال: إن رجلاً من ثقیف أهدی إلی رسول الله(صلی الله علیه و آله) راویتین من خمر فأمر بهما رسول الله(صلی الله علیه و آله) فأهریقتا وقال: إن الذی حرم شربها حرم ثمنها((1)).

ومثله ما رواه الشیخ1 فی التهذیب عن أبی بصیر((2)).

ویرد علیه:

1_ عدم ظهور منطوق هذه الروایات فی التعلیل فضلاً عن استفادة قاعدة کلیة تقتضی حرمة بیع کل ما حرم أکله أو شربه.

2_ لو سلمت استفادة مثل هذا التعلیل فإنه یقتضی النهی عن بیع کل ما حرم أکله کالطین والحجر وشبههما مع أن هذا لم یقل به أحد.

3_ یعارض هذا التعلیل بما ورد فی جواز بیع الدهن والزیت النجسین للاستصباح مع حرمة أکلهما، فقد روی الشیخ1 بسنده عن معاویة بن وهب وغیره عن أبی عبد الله(علیه السلام): فی جرذ مات فی زیت ما تقول فی بیع ذلک؟ قال: بعه وبینه لمن اشتراه لیستصبح به((3)).

کما روی عبد الله بن جعفر فی قرب الإسناد عن إسماعیل بن عبد الخالق عن أبی عبد الله(علیه السلام) قال سأله سعید الأعرج السمان وأنا حاضر عن الزیت والسمن

ص: 230


1- الکافی 5: 232 ب (107) بیع العصیر والخمر ح2.
2- تهذیب الأحکام 7: 123 ب (9) الغرر والمجازفة وشراء السرقة وما یجوز من ذلک وما لا یجوز.
3- تهذیب الأحکام 7: 117 ب (9) فی الغرر والمجازفة وشراء السرقة وما یجوز من ذلک وما لا یجوز.

والعسل تقع فیه الفأرة فتموت کیف یصنع به؟ قال: أما الزیت فلا تبعه إلا لمن تبین له فیبتاع للسراج، وأما الأکل فلا، وأما السمن فإن کان ذائبا فهو کذلک... إلخ((1)).

هذا، وما ینبغی الانتباه إلیه أن النهی عن الأعیان إنما یحمل علی الجهة المقصودة منها فی المتفاهم العرفی الشائع؛ إذ لا معنی للنهی عن ذات العین، کما أن توسعة مجال النهی لما هو أوسع من الشائع العرفی یحتاج إلی قرائن أخری وراء الإطلاق، وحیث لا قرینة لا یمکن القول بالشمول؛ ولهذا فقوله تعالی: [حُرِّمَتْ عَلَیْکُمْ أُمَّهَاتُکُمْ…]((2)) لا یراد منه غیر حرمة النکاح، کما أن قوله تعالی: [حُرِّمَتْ عَلَیْکُمْ الْمَیْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِیرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَیْرِ الله بِهِ…]((3)) إنما یعنی به حرمة تناول هذه الأشیاء من أکل وشرب لا کلّ الانتفاعات بها؛ لأن التناول هو المقصود الشائع بها.

والکلام نفسه یجری فیما لو کان النهی بسبب معروف شائع من شؤون المتعلق أو مستلزماته؛ إذ لا بد من تعین هذا الشائع من تلک الشؤون والمستلزمات دون غیره، إذ هو مما یحتاج إلی قرینة أخری وراء الإطلاق، فالنهی عن ثمن الجاریة المغنیة هو النهی عن تملکه فیما لو کان الغناء قیداً فی بیع هذه الجاریة لا فیما إذا بیعت لغیره من المنافع المحللة، وهکذا النهی عن بیع الخمر والدم والمیتة وغیرها، فالمحرم منه ما لو کان البیع لقصد الشائع من تلک الاستعمالات المحرمة، وکذلک النهی عن بیع أوانی

ص: 231


1- قرب الإسناد: 128 ح448.
2- النساء: 23.
3- المائدة: 3.

الذهب والفضة، فإن المحرم من هذا البیع ما إذا حصل من أجل الاستعمال المحرم منها، أما إذا بیعت کل هذه من أجل غایات أخری محللة فلا یتناولها التحریم.

ودم الإنسان _ مورد الحدیث _ من هذا القبیل، فحیث لا یمنع تزریق هذا الدم فی جسم المحتاج إلیه لا تکون أدلة تحریم بیع الدم شاملة لمثل هذا البیع کما لاحظناه فی الاستعمالات الأخری لما منع من بیعه.

ومن هنا تتضح الإجابة عن شبه هذه الروایات التی تذکر لتحریم المبیع کذلک کروایة دعائم الإسلام عن جعفر بن محمد(علیه السلام) أنه قال فی حدیث: وما کان محرماً أصله منهیاً عنه لم یجز بیعه ولا شراؤه((1)).

وکذلک النبوی المشهور: إن الله إذا حرم شیئاً حرم ثمنه((2)).

فإن تحریم البیع والثمن إنما هو لحرمة الغایات مما یباع ویُشتری؛ ولهذا لم یقل أحد بأن مثل هذه الأدلة تحرم بیع الطین والحجر؛ إذ إن لهما من المنافع المحللة ما یستحق بذل الثمن بإزائهما وإن حرم أکلهما، کما أن التوجیه المتقدم یوضح فرق ما بین کلب الهراش الذی منع بیعه حیث لا فائدة محللة فیه وکلب الصید والماشیة اللذین أجیز بیعهما لما فیهما من فائدة.

کما یتضح ما فی جزم الشیخ الأنصاری1 فی المکاسب بحرمة بیع الدم، وما فی دعوی الاتفاق التی نقلت فی کتاب النهایة والإرشاد والتنقیح؛ إذ هی تعتمد _ کما یبدو _ علی الأخبار المتقدمة التی علمنا توجیهها.

ص: 232


1- دعائم الإسلام 2: 18 فصل (2) ذکر ما نهی عن بیعه ح23.
2- مسند أحمد 1: 247 و293 بلفظ: إن الله(عزوجل) إذا حرم علی قوم أکل شیء حرم علیهم ثمنه، مستدرک الوسائل 13: 73 ب (6) أبواب ما یکتسب به ح8 نقلاً عن عوالی اللئالی.

ویؤید ما ذکرنا حکمهم بجواز المعاوضة علی الدم الطاهر مع تصور منفعة محللة فیه؛ إذ المناط واحد فی الحالین فلا معنی لهذه التفرقة.

*** الأمر الخامس: فی حکم سحب الدم والغرامة مع عدم رضا صاحب الدم.

ما سبق من الحدیث فی الأمرین الأول والثانی إنما کان مع رضا صاحب الدم، وأما إذا لم یرضَ فإن هذا الشخص قد یکون معصوم الدم وقد لا یکون.

فإن کان غیر معصوم الدم أی کان کافراً حربیاً فاقداً لأحد عواصم الدم المعروفة جاز سحب الدم منه من دون إثم أو غرامة؛ إذ لا کرامة لدمه مع فقدها جمیعاً فیه، وهذه العواصم التی تذکر فی کتب الفقه هی:

1_ الإیمان.

2_ عدم نصب العداء للنبی وآله الطاهرین(علیه السلام).

3_ بذل الجزیة ممن یُکتفی بها من الکفار کالیهود والنصاری، والمجوس _ علی قول ضعیف _.

4_ المهادنة مع شرائطها المفصلة فی محلها.

5_ الأمان أو شبهة الأمان وهو ما یسمی أیضاً بالذمام.

6_ النزول علی حکم الإمام أو من یختاره الإمام.

ص: 233

وأما إذا کان معصوم الدم لواحد من هذه الأمور فلا شک فی حرمة سحب الدم منه کما لا شک فی ثبوت الدیة إذا کان السحب من مسلم غیر ناصبی، والظاهر أن مقدار هذه الدیة یتحدد بنوع الجرح الذی یعمله الساحب فی جسم المسحوب منه وتعیّب أو عدم تعیب العضو الذی سحب منه الدم.

فإن کان السحب _ کما هو المتعارف _ بإنفاذ إبرة التزریق المعروفة ولم یؤد إلی عیب العضو فالظاهر أن الدیة هنا هی عشر دیة الرجل أی مائة دینار شرعی((1))، استناداً إلی ما رواه:

الشیخ الکلینی1 فی الصحیح عن یونس عن أبی الحسن(علیه السلام) فی قضاء أمیر المؤمنین(علیه السلام) فی دیة جراحة الأعضاء ضمن حدیث: وأفتی فی النافذة إذا أنفذت من رمح أو خنجر فی شیء من الرجل فی أطرافه فدیتها عشر دیة الرجل مائة دینار((2)).

ولصحة هذه الروایة یقدم الأخذ بها علی ما رواه الشیخ1عن أبی عبد الله(علیه السلام) قال: قضی أمیر المؤمنین فی النافذة تکون فی العضو ثلث دیة ذلک العضو((3)).

لأن هذه الروایة ضعیفة السند، فالشیخ رحمه الله یرویها بسنده عن سهل بن زیاد عن محمد بن الحسن بن شمون((4)) عن الأصم((5)) عن مسمع، وکل من محمد

ص: 234


1- الدینار الشرعی یساوی ثلاثة أرباع المثقال الصیرفی من الذهب المسکوک أو ما یعادله وزن ثمانی عشرة حبة حمص وهی القیراط الصیرفی.
2- الکافی 7: 324 ب (35) دیة الجراحات والشجاج ح5.
3- تهذیب الأحکام 10: 257 ب (26) دیات الشجاج وکسر العظام والجنایات فی الوجوه والرؤوس والأعضاء ح15.
4- رجال النجاشی: 335 فی ترجمة محمد بن الحسن بن شمون رقم (899).
5- قال عنه النجاشی:عبد الله بن عبد الرحمن الأصم المسمعی بصری، ضعیف غال لیس بشیء، رجال النجاشی: 217 فی ترجمته رقم (566).

بن الحسن بن شمون والأصم ضعیف، فقد عبرت کتب الرجال عن الأول بأنه کان واقفیاً ثم غلا، وکان ضعیفاً جدا فاسد المذهب لا یلتفت إلیه ولا إلی مصنفاته، وعن الثانی بأنه ضعیف غال لیس بشیء له کتاب فی الزیارات یدل علی خبث عظیم ومذهب متهافت، وکان من کذابة أهل البصرة.

أما الشیخ الکلینی فیروی نفس هذه الروایة بالسند نفسه عن مسمع((1)) إلا أن فی بعض نسخه توجد کلمة (الناقلة) بدل کلمة (النافذة)، وهی النسخة المثبتة فی الأصل وفی الوسائل کذلک((2))، وهو مما یزید فی وهن هذه الروایة إذ لم یعلم منها أیٌّ من النوعین.

ویلاحظ هنا أن هذا الحکم ممن تستوی فیه المرأة مع الرجل؛ إذ المناصفة إنما یرجع إلیها حیث تصل الدیة إلی ثلث دیة الرجل وأما قبله فلا فرق بینهما، ویدل علی هذا الحکم العدید من النصوص منها ما رواه:

الشیخ الکلینی بسنده عن أبی بصیر عن أبی عبد الله(علیه السلام) قال: جراحات المرأة والرجل سواء إلی أن تبلغ ثلث الدیة، فإذا جاز ذلک تضاعفت جراحة الرجل علی جراحات المرأة ضعفین((3)).

کما لا یبعد شمول الحکم للذمی أیضاً لما دلَّ علی ذلک من أخبار، وأن دیته أقل من دیة المسلم، وتعیینها بثمانمائة درهم کما فی روایة:

ص: 235


1- الکافی 7: 325 ب (35) من أبواب الدیات ح12.
2- وسائل الشیعة 29: 380 ب (2) من أبواب دیات الشجاج والجراح ح7.
3- الکافی 7: 298 ب (20) من أبواب الدیات ح11.

محمد بن قیس عن ابی جعفر(علیه السلام) فی حدیث قال: دیة الذمی ثمانمائة درهم((1)).

وفی روایة ابن مسکان عن أبی عبد الله(علیه السلام) قال دیة الیهودی والنصرانی والمجوسی ثمانمائة درهم((2)).

إلی غیرهما من روایات المورد.

أقول: ما دل علی هذا وارد فی دیة النفس سوی واحدة منها واردة فی عین الذمی، ففی روایة برید العجلی قال: سألت أبا عبد الله(علیه السلام) عن رجل مسلم فقأ عین نصرانی، قال: إن دیة عین النصرانی((3)) أربعمائة درهم((4)).

وأخری رواها الشیخ1 بسند ضعیف عن أبی عبد الله(علیه السلام) أن أمیر المؤمنین(علیه السلام) قضی فی جنین الیهودیة والنصرانیة والمجوسیة عشر دیة أُمه((5)).

أما تعدیة الحکم إلی الجراح فقد یقال بأنه قیاس غیر معتبر، إلا أن تصریح الروایات بأخذ النسبة المعینة من دیة الرجل کدیة لأنواع تلک الجراح یعنی ثبوت تلک النسبة نفسها فی دیة الذمی کذلک، فحیث ثبت أن مقدار هذه هی ثمانمائة درهم کانت نسبة العشر هی المتعینة فی الجراحات النافذة التی هی موضوع الحدیث، فالمقدار یحدد فیه بثمانین درهماً.

ص: 236


1- وسائل الشیعة 29: 217 ب (13) من أبواب دیات النفس ح3.
2- وسائل الشیعة 29: 217 ب (13) من أبواب دیات النفس ح2.
3- فی نسخة: الذمی.
4- وسائل الشیعة 29: 218 ب (13) من أبواب دیات النفس ح4.
5- تهذیب الأحکام 10: 169 ب (14) من القود بین الرجال والنساء والمسلمین والکفار.. ح45.

وهذا هو ظاهر کلام المحقق فی الشرائع((1))، کما أن أصالة البراءة عن الأکثر تقتضی ذلک، وهو الأظهر کما أنه مختار الشیخ1 فی النهایة((2)).

هذا، ویحتمل القول بأن جرح إبرة التزریق الذی یحصل حین سحب الدم لبساطته مما تنصرف عنه الأدلة السابقة التی وردت فی نفوذ مثل الخنجر والرمح فلا یقال بشمول تلک الأدلة لجرح هذه الإبرة، وعلیه فلا بد من الالتزام بما یعینه الحاکم الشرعی من حکومةٍ، أو حکمِ العدلین الذی ورد فی صحیحة عبد الله بن سنان عن أبی عبد الله(علیه السلام) قال فی حدیث: وما کان جروحاً دون الاصطلام فیحکم به ذوا عدل منکم، ومن لم یحکم بما أنزل الله فأولئک هم الکافرون((3)).

هذا کله مع عدم حصول عیب فی العضو المسحوب منه الدم أما لو تعیب هذا العضو فلا بد من دیته المقررة له فی الشریعة؛ لأن مثل هذا الشخص مجنی علیه یستحق مثل تلک الدیة کاملة.

ویضاف إلی الدیة أیضاً فی جمیع الحالات السابقة ثمن الدم المسحوب فیعطی إلی المسحوب منه؛ لأنه ملکه بحسب العرف فتشمله أدلة الضمان بما فیها من إطلاق.

*** الأمر السادس: فی الشخص الذی یستحق الدیة.

ص: 237


1- شرائع الإسلام 4: 279 فی لواحق باب الدیات.
2- النهایة للشیخ الطوسی: 749 کتاب الدیات.
3- وسائل الشیعة 29: 389 ب (9) من أبواب دیات الشجاج والجراح ح1.

لا شک أن الذی یستحق الدیة وقیمة الدم هو المجنی علیه الذی سحب منه حال حیاته وإن کان التسلیم بعد الوفاة فهو کبقیة أمواله التی تعود میراثاً بعد إخراج الدیون والثلث.

أما لو کان السحب بعد الوفاة فالظاهر أن الأمر کذلک فیها أیضاً لعموم أدلة مصارف الدیات، إلا أن هنا روایة ذکرت أن مصرف الدیة للإمام(علیه السلام) کما ذکرت أخری أن مصرفها هو الصدقة أو الحج عن المیت المجنی علیه، فقد روی إسحاق بن عمار عن أبی عبد الله(علیه السلام) قال قلت: میت قطع رأسه؟ قال: علیه الدیة.

قلت: فمن یأخذ دیته؟ قال: الإمام، هذا لله، وإن قطعت یمینه أو شیء من جوارحه فعلیه الأرش للإمام((1)).

وروی محمد بن الصباح عن بعض أصحابنا عن أبی عبد الله(علیه السلام) _ فی حدیث _ أن المنصور سأله إلی أن قال: فسأله عن الدراهم لمن هی؟ لورثته أم لا؟ فقال أبو عبد الله(علیه السلام) لیس لورثته فیها شیء إنما هذا شیء أتی إلیه فی بدنه بعد موته، یحج بها عنه أو یتصدق بها عنه أو تصیر فی سبیل من سبل الخیر.. الحدیث((2)).

وروی الحسین بن خالد [عن أبی الحسن(علیه السلام)] قال: سئل أبو عبد الله(علیه السلام) فی حدیث.. قلت فمن قطع رأس میت أو شق بطنه أو فعل به ما یکون فیه اجتیاح نفس الحی فعلیه دیة النفس کاملة؟ فقال: لا، ولکن دیته دیة الجنین فی بطن أُمه قبل أن تلج فیه الروح، وذلک مائة دینار، وهی لورثته، ودیة هذا هی له لا للورثة.

ص: 238


1- وسائل الشیعة 29: 326 ب (24) من أبواب دیات الأعضاء ح3.
2- وسائل الشیعة 29: 325 ب (24) من أبواب دیات الأعضاء ح1.

قلت: فما الفرق بینهما؟ قال: إن الجنین أمر مستقبل مرجو نفعه، وهذا قد مضی وذهبت منفعته، فلما مثل به بعد موته صارت دیته بتلک المثلة له لا لغیره.. یحج بها عنه ویفعل بها أبواب الخیر والبر من صدقه أو غیره.. الحدیث((1)).

إلا أن هذه الروایات کلها ضعیفة السند، فلا یمکن رفع الید عن عمومات أدلة مصرف الدیة بها، فترجع هذه الدیة إلی بقیة أموال المیت الأخری.

***

ص: 239


1- وسائل الشیعة 29: 325 ب (24) من أبواب دیات الأعضاء ح2.

ص: 240

الفصل الثانی: مصرف الأعضاء

وتفصیل الحدیث فی هذا الفصل لا بد من عرضه ضمن جهات رئیسة:

الجهة الأولی: فی جواز انتزاع بعض أعضاء الإنسان والحیوان.

ویتصور هذا الانتزاع ضمن حالات متعددة:

الأولی: أن یکون صاحب العضو راضیاً بانتزاع ما یؤخذ منه من دون أن یُوْدِی بحیاته وعلی أن یکون الانتزاع فی حال الحیاة، ولا مانع فی هذه الحالة من انتزاع العضو سواء أکان الواهب مسلماً أم کافراً، وسواء أکان کافراً معصوم الدم أم غیر معصومه، وسواء توقفت علیه حیاة الشخص المحتاج أم لم تتوقف؛ إذ مع الرضا لا مانع فی کافة الحالات.

الثانیة: أن لا یرضی صاحب العضو بانتزاعه وکان مسلماً أو کافراً عصم دمه، فلا یجوز الانتزاع منه وإن لم یودِ بحیاته.

ص: 241

نعم لو توقف حیاة النفس المحترمة علی ذلک العضو ولم یکن الانتزاع مما یودی بحیاة الحی أصبحت الهبة من الواجب الکفائی علی کل من یمکن زرع عضوه فی جسم تلک النفس المحترمه التی یخاف تلفها.

وأما إذا کان الانتزاع مما یودی بحیاة الحی فلا إشکال فی عدم الجواز؛ لأنه من إلقاء النفس فی التهلکة، وهو محرم عقلاً وکتاباً وسنة، إلا أن یکون المفتقر إلی ذلک العضو ممن یجب التضحیة لأجله، فتأمل.

وبهذا یظهر ما فی ما یستشم من بعضهم من إدراج المورد فی مسألة التزاحم وعند التعادل یرجع إلی التخییر فیتخیّر صاحب العضو بین الاحتفاظ بحیاته والامتناع عن السماح بانتزاع العضو منه وبین إنقاذ حیاة المفتقر إلیه بالسماح به؛ لأن المورد لیس من موارد التخییر بل هو من دوران الأمر بین الحرمة والوجوب.

الثالثة: أن لا یرضی صاحب العضو بانتزاعه منه ولم یکن محقون الدم بأحد العواصم المذکورة فی الفصل السابق، فلا ریب فی جواز أخذ العضو منه؛ إذ لا حرمة له سواء احتیج لزرعه فی جسم مسلم أم غیره.

ویمکن الإشارة إلی أن الکلام نفسه یجری بالنسبة إلی أعضاء الحیوان فإن کان مملوکاً لمسلم أو کافر عصم ماله لا یجوز انتزاعه إلا برضاه، وأما إذا لم یملک أو کان مملوکاً لمن لم یعصم ماله فلا إشکال فی الجواز، وإن توقفت علیه حیاة النفس المحترمة وجب بذله بنحو الوجوب الکفائی.

ص: 242

الرابعة: أن یُقتطع العضو من المیت الکافر الذی لم یعصم دمه بأی من حواقن الدم المعروفة، ولا إشکال فی جواز الاقتطاع سواء سبق منه الرضا أم لا، ولا یلتفت إلی ما أدّعی بأنه تمثیل محرم دلت علیه معتبرات الروایات التی تروی فی هذا المضمار منها:

ما رواه الشیخ الکلینی بسنده عن معاویة بن عمار قال: أظنه عن أبی حمزة الثمالی عن أبی عبد الله(علیه السلام) قال: کان رسول الله(صلی الله علیه و آله) إذ أراد أن یبعث سریة دعاهم فأجلسهم بین یدیه ثم یقول: سیروا باسم الله وبالله وفی سبیل الله وعلی ملة رسول الله لا تغلوا ولا تمثلوا ولا تغدروا.. الحدیث((1)).

ومثله فی المضمون حدیث مسعدة بن صدقة عن أبی عبد الله((2)).

إذ یرد علی هذا أن حاجة الحی إلی العضو المنتزع ترفع الحرمة وإن کان هذا الاقتطاع فی واقعه لا یخرج عن المثلة؛ إذ مَن فسرها من اللغویین لم یقیدها بغرض التشفی والعقوبة، قال فی النهایة: یقال: مثلت بالحیوان أمثلُ به مثلاً إذا قَطعتَ أطرافه وشوّهْتَ به، ومثلت بالقتیل إذا جدعت أنفه أو أُذنه أو مذاکیره أو شیئاً من أطرافه((3))، وقریب منه ما فی تاج العروس((4)).

ص: 243


1- الکافی 5: 29 ب (8) من أبواب الجهاد ح1.
2- الکافی 5: 31 ب (8) من أبواب الجهاد ح8.
3- النهایة فی غریب الحدیث والأثر 4: 294 مادة (مثل).
4- تاج العروس 15: 683 مادة (مثل).

وحینئذ فلا شاهد علی تقییدها بأحدهما کما قاله بعضهم، نعم قد یکونان غایتین لأکثر ما یقع خارجاً من اقتطاع الأطراف ووقائع المثلة إلا أن هذا لا یستوجب تقیید المفهوم أو الحرمة به، ولکن الحاجة إلی العضو مما یمنع القول بالحرمة؛ لأهمیة الحی علی المیت، من دون فرق بین أن یکون الشخص الذی یحتاج إلیه مسلماً أو کافراً معصوم الدم.

نعم إذا کان کافراً غیر معصوم الدم وکان المیت مسلماً فلا یجوز الاقتطاع إذ هو لا حرمة له ما لم یکن معصوم الدم.

الخامسة: إذا کان المیت مسلماً سبق منه رضا فی حال حیاته فلا مانع من انتزاع العضو منه؛ إذ لا دلیل علی حرمة الانتزاع بعد الموت فی حال سبق الرضا منه، وما دل علی أن حرمة المیت المسلم کحرمته حیاً کما سبق فی الفصل السابق منصرف عن هذا المورد؛ لأنه هو الذی سمح بإسقاط حرمة نفسه بعد الموت بإذنه بانتزاع ذلک العضو من جسده((1))، ومثله ما إذا کان کافراً محقون الدم.

السادسة: أن یکون المیت مسلماً ولکن لم یسبق منه إذن فی حال حیاته، والظاهر حرمة قطع شیء من جسده، وقد سبق عرض عدة روایات تؤکد أن حرمة المیت کحرمة الحی، بل إن بعضها شدد علی التحریم حتی عظَّم حرمة المیت علی الحی، ولا أثر هنا لرضا الوارث بهذا الاقتطاع، فإن الحرمة ثابتة وإن رضی الوارث بذلک، کما أن مجرد حاجة الحی إلی ذلک العضو لا ترفع الحرمة ما لم

ص: 244


1- هذا، ولکنه(دام ظله) تراجع أخیراً عن ذلک واعتبر إذنه غیر نافذ؛ نظراً إلی أنه یعتبر فی نفوذ الإذن صلاحیة الآذن للتصرف فی متعلق الإذن فی ظرفه.

تصل الضرورة فیها إلی الحد الذی یبیح المحذور؛ إذ مع هذه الحال لا مانع من انتزاع العضو من المیت؛ لأدلة الاضطرار کقوله تعالی: )فَمَنِ اضْطُرَّ غَیْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَیْهِ(((1)).

والأمر نفسه یجری فی الکافر معصوم الدم؛ إذ لا شک فی حرمة انتزاع أحد أعضائه بعد موته وعدم سبق الإذن منه وکون دیته أقل من دیة المسلم لا یبیح الاقتطاع منه.

ویمکن التعقیب علی هذه الأمور بتماثل الحکم فی الحیوان واقتطاع أحد أعضائه بعد موته فإن کان مملوکاً لمسلم أو کافر عصم ماله اشترطت إجازته فیه، وموته لا یستوجب رفع ملکیة صاحبه عنه، وإلا لم تشترط کما إذا کان مملوکاً لغیر معصوم المال أو لم یکن مملوکاً لأحد.

*** الجهة الثانیة: فی جواز معاوضة أحد علی الأعضاء المنتزعة منه.

ولا إشکال فی جواز المعاوضة علی الأعضاء بنحو یکون تسلیم العوض بعنوان الهبة طلباً لرضا صاحب العضو بانتزاع عضوه لا أن یکون ثمناً له، سواء أکان الانتزاع فی حال الحیاة أم بعد الموت.

ص: 245


1- البقرة: 173.

أما إذا کانت المعاوضة بعنوان البیع، فإن وقع علی العضو قبل اقتطاعه من جسم البائع فالظاهر أنه لا مانع من هذه المعاوضة حینئذ؛ لأن ما یعتمد علیه فی المنع إنما هو ما دل علی حرمة بیع المیتة وأن ثمنها سحت، والعضو قبل الاقتطاع لیس من المیتة کما أن العرف والعقلاء یرونه من المالیات فلا مانع من بیعه سواء سمح باقتطاعه حال حیاته أم اشترط انتزاعه بعد الموت.

وأما بعد الانتزاع فالظاهر جواز بیعه کذلک؛ لأن هذا العضو المنتزع وإن أصبح من المیتة إلا أنه سبق أن بینا أن حرمة بیع المیتة إنما تثبت حیث تنتفی الفوائد المحللة _ کما سبقت الإشارة إلیه _ وأما مع وجود مثل هذه الفائدة _ کما هو الفرض هنا _ فلا مانع کما قلناه أیضاً فی بیع الدم، وسیأتی تفصیل للحدیث فیه إن شاء الله فی الجهة الثالثة الآتیة.

*** الجهة الثالثة: فی بیع ما ینتزع من المیت من أعضاء.

إذا لم یبح شخص حال حیاته أن یقتطع منه أحد أعضائه مجاناً أو لم یستلم ثمنه حال الحیاة ولکن _ لسبب من الأسباب المبیحة أو غیر المبیحة _ اقتطع ذلک العضو منه فهل یجوز بیعه لیزرع فی جسم الحی أو لا یجوز؟

ص: 246

والکلام نفسه یجری فی الحیوان حیث لا یسمح المالک بالاقتطاع حال حیاة الحیوان _ إن کان مملوکاً _ فهل له المعاوضة علیه بعد موته؟ وکذلک فیما إذا لم یکن الحیوان مملوکاً.

وفی الحقیقة أن هذا السؤال ینحل إلی ثلاثة أسئلة کل منها مجال للحدیث فیقع السؤال:

1_ عن جواز الانتفاع بهذه الأعضاء المنتزعة من المیت.

2_ وعن صلاحیتها للبیع فی هذه الحال.

3 _ وعن من له الحق فی البیع وتملک الثمن.

کما أن کل واحد من هذه الأسئلة یقع ضمن فرضین؛ إذ قد یفرض العضو مما لا تحله الحیاة بمعنی أنه لا یؤلم صاحبه لو اقتطع منه وإن کان اقتلاعه مؤلماً کالشعر والظفر والسن، وقد یفرض أنه من الأعضاء التی تحلها الحیاة کالکُلیة والعین والقلب وشبهها، فلا بد من تفصیل الکلام فی کل من الفرضین:

0 0 0 الفرض الأول: فی العضو الذی لا تحله الحیاة.

الجهة الأولی: فی جواز الانتفاع بالعضو المأخوذ من المیتة، أما فی الحیوان فلا مانع منه وإن أخذ من المیت فی هذه الحال؛ لأن ما لا تحله الحیاة إن أخذ من

ص: 247

حیوان طاهر یعتبر طاهراً وإن کان هذا الحیوان میتاً، وقد دلت علی طهارته روایات منها ما رواه:

1_ الشیخ الکلینی بسنده عن الحسین بن زرارة عن أبی عبد الله(علیه السلام) قال: الشعر والصوف والوبر والریش وکل نابت لا یکون میتاً((1)).

2_ الشیخ بسنده عن الحلبی عن أبی عبد الله(علیه السلام) قال: لا بأس بالصلاة فیما کان من صوف المیتة، إن الصوف لیس فیه روح((2)).

أما ما دل علی اشتراط التذکیة فی الانتفاع بسن الشاة وهی ما رواه:

الحلبی قال: سألته(علیه السلام) عن الثنیة تنفصم وتسقط أیصلح أن تجعل مکانها سن شاة؟ قال: إن شاء فلیضع مکانها سناً بعد أن تکون ذکیة((3)).

فلا بد من حمله علی أن الذکاة المطلوبة هنا هی الطهارة بالغسل، أو حمل الحکم علی کراهة استعمال السن غیر مذکی الأصل، وإن أبت الروایة مثل هذین الحملین فلا بد من طرحها؛ إذ عموم التعلیل فی روایة الحلبی شامل للسن أیضاً، کما أنه مشمول للعموم فی قوله(علیه السلام) فی روایة الحسین بن زرارة.. وکل نابت لا یکون میتا.

وأما فی الإنسان فجواز الانتفاع بما لا تحله الحیاة منه مما لا إشکال فیه، وقد سبق فی الأمر الثالث من الفصل المتقدم معتبرة الحسین بن زرارة عن أبی عبد

ص: 248


1- الکافی 6: 260 ب (9) ما ینتفع به من المیتة وما لا ینتفع به منها ح3.
2- تهذیب الأحکام 2: 345 ب (17) فیما یجوز الصلاة فیه من اللباس والمکان وما لا یجوز ح62.
3- وسائل الشیعة 3: 514 ب (68) من أبواب النجاسات ح5.

الله(علیه السلام) قال: وسأله أبی وأنا حاضر عن الرجل یسقط سنه فیأخذ سن إنسان میت فیجعله مکانه؟ قال: لا بأس((1)).

ولکن لا بد أن نستعید هنا ما ذکرناه فی الجهة الأولی من أن جواز الانتفاع بأحد أجزاء المیت المسلم لا یعنی جواز الانتزاع من جسمه من دون سبق رضاه أو استدعته الضرورة، کما لا یعنی سقوط الدیة التی تقرر علیه، ومثله ما إذا کان المیت کافراً محقون الدم کالذمی وشبهه.

الجهة الثانیة: فی صحة بیع الجزء الذی لا تحله الحیاة.

والحکم فی هذه الحالة واضح؛ إذ بعد الحکم بجواز الانتفاع بهذه الأعضاء سواء انتزعت من الحیوان أو الإنسان فلا مانع من إجراء المعاملة علیها؛ لأن التعامل علیها یصبح مسألة عقلائیة حینئذ.

الجهة الثالثة: فیمن یتملک هذه الأعضاء ویستحق الثمن والحکم فیها أیضاً واضح من خلال ما سبق من حدیث فإن کان العضو منتزعاً من الحیوان وکان هذا مملوکاً لشخص محترم المال فلا شک بأن ملکیة هذا العضو تعود لمالکه؛ إذ هو لم یخرج عن ملکیته فله حق التصرف فیه وبیعه ان شاء.

أما إذا کان الحیوان مملوکاً لغیر محترم المال أو لم یکن مملوکاً لأحد کانت أعضاؤه من المباحات العامة التی تتملک بالحیازة أو الاستیلاء.

ص: 249


1- وسائل الشیعة 24: 183 ب (33) من أبواب الأطعمة المحرمة ح12.

أما إذا کان العضو منتزعاً من المیت _ والمفروض أنه لم یبح لأحد انتزاعه _ فإن کان المیت مسلماً أو ممن عصم دمه لا بد من دفع الدیة سواء مع مخالفة الحکم الشرعی بالتحریم أو حیث تستدعی الضرورة المبیحة حیث تتوقف حیاة النفس المحترمة _ کما قلنا _.

ومصرف هذه الدیة هو ما قلناه فی الفصل السابق؛ إذ یرجع إلی بقیة ما یترکه المیت من مواریث، ولا یلتفت إلی ما ورد من رجوعها إلی الإمام(علیه السلام) فی هذه الحال، أو اعتبارها من مصارف سبل الخیر التی تصرف فی الحج وأبواب البر لضعف هذه الروایات.

أما الذی یتملک الأعضاء فی هذه الحال فسنستوفی الحدیث فیه إن شاء الله فی موقعه من الفرض الثانی.

الفرض الثانی: فی الأعضاء التی تحلها الحیاة.

ولا بد فی هذا الفرض أیضاً من ملاحظة الجهات الثلاث التی ذکرناها فی الفرض السابق.

الجهة الأولی: فی جواز الانتفاع بالمیتة وأجزائها، والکلام یقع کذلک بالنسبة إلی الحیوان تارة وإلی الإنسان أخری.

أما الحیوان فالمعروف بین الفقهاء أنه لا یجوز الانتفاع بالمیتة النجسة، وقد استدل علی هذه الحرمة بما رواه:

ص: 250

1_ علی بن أبی المغیرة فی الصحیح، قال: قلت لأبی عبد الله(علیه السلام): المیتة ینتفع منها بشیء؟ فقال: لا((1)).

2_ الکاهلی فی المعتبر قال: سأل رجل أبا عبد الله(علیه السلام) وأنا عنده عن قطع ألیات الغنم فقال: لا بأس بقطعها إذا کنت تصلح بها مالک، ثم قال: إن فی کتاب علی(علیه السلام) أن ما قطع منها میت لا ینتفع به((2)).

3_ أبو إسحاق عن أبی الحسن(علیه السلام) قال: کتبت إلیه أساله عن جلود المیتة التی یؤکل لحمها ذکیاً؟ فکتب(علیه السلام): لا ینتفع من المیتة بإهاب ولا عصب...((3)).

إلا أن هذه الطائفة معارضة بما دل علی جواز الانتفاع بالمیتة، وهی کثیرة منها ما رواه:

1_ محمد بن إدریس1 فی آخر السرائر نقلاً من کتاب جامع البزنطی صاحب الرضا(علیه السلام) قال سألته عن الرجل یکون له الغنم یقطع من ألیاتها وهی أحیاء أیصلح أن ینتفع بما قطع؟ قال: نعم یذیبها ویسرج بها ولا یأکلها ولا یبیعها((4)).

2_ أبو بصیر عن أبی عبد الله(علیه السلام) فی حدیث: أن علی بن الحسین(علیه السلام) کان یبعث إلی العراق فیؤتی مما قبلکم بالفرو فیلبسه، فإذا حضرت الصلاة ألقاه وألقی

ص: 251


1- وسائل الشیعة 24: 184 ب (34) من أبواب الأطعمة المحرمة ح1.
2- وسائل الشیعة 24: 71 ب (33) من أبواب الذبائح ح1.
3- وسائل الشیعة 24: 71 ب (33) من أبواب الأطعمة المحرمة ح7 وفی سنده (عن الفتح بن یزید الجرجانی بدل أبی إسحاق) وفی نسخة من الاستبصار: عن أبی إسحاق).
4- وسائل الشیعة 24: 73 ب (30) من أبواب الذبائح ح4.

القمیص الذی یلیه، فکان یُسأل عن ذلک فقال: إن أهل العراق یستحلون لباس جلود المیتة ویزعمون أن دباغه ذکاته((1)).

ومقتضی الأصل جواز الانتفاع بالمیتة حیث لا تعتبر الطهارة، کما هو مختار الشرائع والنافع، وهو ما عن کاشف الرموز1 والعلامة1 فی الإرشاد حیث أفتوا بجواز الاستقاء بجلود المیتة لما لا یستعمل فی الصلاة والشرب، وعن التنقیح أیضاً المیل إلیه.

وأما الأخبار المانعة من الاستفادة بالمیتة فهی _ علی کثرتها _ یمکن حملها علی الانتفاع بما یشترط فیه الطهارة کالصلاة والأکل، أو حملها علی الکراهة، فما دل علی الجواز نص غیر قابل للتصرف فی دلالته، وزرع الأعضاء لیس من تلک المنافع التی یشترط فیها الطهارة فلا مانع منه حینئذ.

وأما ما یؤخذ من الإنسان المیت مما تحله الحیاة فإنه أیضاً مشمول لأدلة الإباحة العامة فیمکن الانتفاع به من دون مانع، وما دل علی المنع لا یتناول مثل هذه الانتفاعات.

الجهة الثانیة: فی بیع العضو الذی کانت تحله الحیاة من المیت.

والمشهور فی مثل هذا العضو عدم جواز البیع، والذی یمکن أن یستدل به علی هذا المنع أمور:

الأول: أن الشارع قد أسقط مالیة المیتة ومن ثم إمکان تملکها من قبل أحد، والمالیة والملکیة من شروط صحة البیع، وفیه:

ص: 252


1- وسائل الشیعة 3: 502 ب (61) من أبواب النجاسات ح3.

أولاً:عدم وجود دلیل معتبر علی اشتراطهما فی البیع، ولا سیما وجودهما قبل وقوع البیع؛ إذ یکفی وجودهما المقترن بوقوع البیع کما فی بیع الکلی وعمل الحر_ علی رأی من ینکر مالیته أو ملکیته قبل وقوع المعاملة علیه _.

وثانیاً: المستفاد من الأدلة _ علی تقدیر تمامیتها _ عدم جواز البیع وعدم جواز أکل الثمن، وهذا أعم من المدعی؛ إذ من الممکن تصور المالیة والملکیة لما یحرم بیعه.

الثانی: أن ما تحله الحیاة من المیتة نجس، وإن کان الحیوان طاهراً حال حیاته، وبیع النجس غیر جائز.

وفیه: أنه لا دلیل علی المنع من بیع النجس کالثوب والدهن وشبههما للانتفاع به فیما لا تشترط الطهارة فیه کالسراج بالدهن أو الزیت.

الثالث: أن المیتة لا یجوز الانتفاع بها فیکون أکل ثمنها أکلاً بالباطل.

وفیه ما سبق معرفته من عدم تمامیة المقدمة الأولی؛ إذ سبق أن المیتة یمکن الانتفاع بها ولا سیما هذه الأعضاء التی تقتطع لزراعتها فی أجسام الأحیاء التی نحتاجها.

الرابع: قیام الإجماع علی عدم جواز البیع.

وفیه: أنه لو سلم أن هناک اتفاقاً علی القول بالحرمة إلا أنه إجماع مدرکی یستند إلی استفادة العلماء ذلک مما ورد بهذا الصدد من الروایات ولیس إجماعا تعبدیاً.

الخامس: الأخبار الواردة التی تحرم بیع المیتة، منها:

ص: 253

1_ ما سبق ذکره من روایة محمد بن إدریس عن جامع البزنطی صاحب الرضا(علیه السلام) وفیه یقول(علیه السلام) عما یؤخذ من ألیات الغنم من دهن:.. ویسرج بها ولا یأکلها ولا یبیعها((1)).

2_ ما رواه الحسن بن شعبة فی تحف العقول مرسلاً عن الصادق(علیه السلام): وأما وجوه الحرام من البیع والشراء وکل أمر یکون فیه الفساد مما هو منهی عنه من جهة أکله وشربه أو کسبه أو نکاحه أو ملکه أو إمساکه أو هبته أو عاریته أو شیء یکون فیه وجه من وجوه الفساد نظیر البیع بالربا لما فی ذلک من الفساد أو البیع للمیتة.. إلخ((2)).

3_ وقریب منه ما رواه فی المستدرک عن کتاب فقه الرضا((3)).

4_ ما رواه کتاب دعائم الإسلام عن جعفر بن محمد عن أبیه عن آبائه عن علی(علیه السلام) أن رسول الله(صلی الله علیه و آله) نهی عن بیع الأحرار وعن بیع المیتة.. إلخ((4)).

5_ ما رواه فی المستدرک عن النبی(صلی الله علیه و آله) وأن الله تعالی إذا حرم علی قوم أکل شیء حرم علیهم ثمنه((5)).

والروایات کلها سوی معتبرة البزنطی مما لم تثبت صحته، وهذه المعتبرة لا بد من حملها؛ إما علی المنع من البیع من دون إعلام المشتری کما هو حال المنع

ص: 254


1- وسائل الشیعة 24: 72 ب (30) من أبواب الذبائح ح4.
2- تحف العقول: 245 جوابه(علیه السلام) عن جهات معایش العباد.
3- مستدرک الوسائل 13: 63 _ 65 ب (2) من أبواب ما یکتسب به ح1.
4- دعائم الإسلام 2: 18 فصل (2) ذکر ما نهی عن بیعه ح22.
5- مستدرک الوسائل 13: 73 ب (6) من أبواب ما یکتسب به ح8.

عن بیع الجلد المشکوک التذکیة علی المسلم من دون إعلامه بالحال کما یدل علیه ما رواه الشیخ1 بسنده عن عبد الرحمن بن الحجاج قال: سألت أبا عبد الله(علیه السلام) عن الفراء أشتریه من الرجل الذی لعلی لا أثق به فیبیعنی علی أنها ذکیة، أبیعها علی ذلک؟ فقال: إن کنت لا تثق به فلا تبعها علی أنها ذکیة إلا أن تقول: قد قیل لی أنها ذکیة((1)).

أو حملها_ ومثلها غیرها مما ورد فی حرمة البیع _ علی بیع ما لا منفعة محللة له غالبة بقرینة ضم الحرمة إلی المنع من البیع، وبمناسبة الحکم والموضوع؛ ولهذا فحیث تتصور لبعض المحرمات مثل هذه المنافع الشائعة لا یقال بحرمة بیعها کالتراب والحجر والدم الطاهر والعذرة للتسمید وشبهها، وطبیعی أن زرع العضو المقتطع من المیتة فی جسم الحی الذی یحتاج إلیه هو أحد تلک المنافع المحللة، فلا یقال بحرمة بیع هذه الأعضاء وإن أخذ من إنسان أو حیوان میتین.

کما یمکن حملها علی الکراهة جمعاً بینها وبین ما دل علی حلیة بیع المیتة فقد روی:

1_ الحلبی فی الصحیح قال: سمعت أبا عبد الله(علیه السلام) یقول: إذا اختلط الذکی والمیت باعه ممن یستحل المیتة وأکل ثمنه((2)).

ص: 255


1- تهذیب الأحکام 7: 120 ب (9) الغرر والمجازفة وشراء السرقة وما یجوز من ذلک وما لا یجوز ح57.
2- وسائل الشیعة 24: 187 ب (36) من أبواب الأطعمة المحرمة ح1.

2_ الحلبی أیضاً عن أبی عبد الله(علیه السلام) أنه سئل عن رجل کان له غنم وبقر وکان یدرک الذکی منها فیعزله ویعزل المیتة، ثم إن المیتة والذکی اختلطا کیف یصنع به؟ قال: یبیعه ممن یستحل المیتة، ویأکل ثمنه فإنه لا بأس به((1)).

وقد أفتی بمضمون هاتین الروایتین فی النهایة والوسیلة والجامع _ علی ما حکی عنه _ وفی الحدائق عن المجلسی1 القول بجواز بیع المیتة؛ لأدلة الجواز وعدم تمامیة الإجماع علی المنع.

3_ ما ورد فی جواز بیع العجین بالماء النجس، فعن حفص بن البختری عن أبی عبد الله(علیه السلام) فی العجین من الماء النجس کیف یصنع به؟ قال یباع ممن یستحل المیتة((2)).

ولیس الاستدلال بالروایة من باب القیاس، بل إن تخصیص الإمام(علیه السلام) جواز البیع ممن یستحل المیتة یعنی أن موردیهما من ملاک واحد.

وقد حاول البعض _ کالمحقق1 والعلامة1 _ حمل هذه الروایات علی البیع الصوری؛ إذ هو فی الحقیقة من باب استنقاذ المال من الکافر، إلا أن هذا الحمل لا موفقیة فیه؛ إذ یمکن أن یکون مستحل المیتة من الذمیین محترمی المال، بل هذا هو المورد الغالب فی المجتمع المسلم حین صدور هذه الروایات.

وحاول آخرون تصحیح البیع بقصد البائع المسلم أجزاء المیتة التی لا تحلها الحیاة فی العقد من الصوف والعظم والشعر ونحوها.

ص: 256


1- وسائل الشیعة 24: 187 ب (36) من أبواب الأطعمة المحرمة ح2.
2- وسائل الشیعة 17: 100 ب (7) من أبواب ما یکتسب به ح3.

ولکن مع هذا القصد لا موجب لتخصیص البیع ممن یستحل أکل المیتة فقط؛ إذ مع هذا القصد یصح البیع حتی مع المشتری المسلم.

کما حاول آخرون تصحیحه بقصد بیع المذکی فی العقد فقط، وهذا الحمل یظهر ما فیه کذلک من الالتفات إلی أن البیع مع هذا القصد صحیح حتی مع المسلم، مع أنه مناف لإطلاق بعض الروایات ولاسیما الروایة الثالثة الواردة فی العجین؛ إذ المجموع أصبح نجساً فلا یمکن قصد البعض دون البعض؛ إذ لا تمایز بین النجس والطاهر.

ولا یمکن تصحیح المعاملة بقاعدة الإلزام؛ إذ حققنا فی مورد القاعدة عدم جریانها فی العقود.

ودعوی لزوم الرجوع إلی مطلق ما دل علی حرمة بیع المیتة بعد سقوط ما دل علی جواز بیعها بالمعارضة لا وجه لها إذ یرد علیه:

أولاً: أن ما دل علی الجواز معارض لما ورد فی المنع، والتعارض حین یستوجب التساقط لا بد من حصوله فی الطرفین، وحینئذ یرجع إلی أدلة الإباحة العامة.

وثانیاً: لو فرض اختصاص دلیل الجواز بالمیتة المختلطة بالمذکی فالمورد لیس هو التعارض بل التخصیص، وعلیه فلا بد من تخصیص أدلة المنع بروایات التجویز.

وثالثاً: لا وجه لترجیح دلیل المنع علی دلیل الجواز؛ إذ کل ما فی الأمر أن هنا شهرة اعتبرت مرجحة للمنع إلا أن الشهرة المرجحة _ لو سلم أصل المبنی _

ص: 257

هی المطلقة التی تزیل الریب والشک، وما نحن فیه لیس من هذه الشهرة؛ إذ لم یعلم من الأصحاب العمل بروایات المنع مطلقاً، وإلا لمنعوا من بیع میتة غیر ذی النفس السائلة؛ إذ هی مشمولة للعموم، مع أنهم حکموا بالجواز فیها.

إذن فالصحیح أنه لا مانع من بیع المیتة حیث تکون لها منافع عقلائیة محللة کالاستفادة من أعضائها فی زرعها فی أجسام الأحیاء.

الجهة الثالثة: فیمن یمتلک العضو المنتزع من المیت.

وخلاصة القول فیه: أن العضو إن کان منتزعاً من إنسان مملوک أو حیوان کذلک فالثمن ولا شک للمالک کما هو مقتضی القاعدة والأخبار المتقدمة.

أما إذا کان العضو قد انتزع من إنسان حر فاقد للعواصم أو حیوان غیر مملوک فهو کالمباحات الأصلیة یملکه من یحوزه، فله تعود التصرفات کافة ومنها البیع وامتلاک الثمن.

وإذا کان العضو من إنسان حر محقون الدم فیحتمل فیه أوجه؛ أن یتملکه الشخص الذی یعطی الدیة، ولا یبعد إجراء حکم المباحات الأصلیة فیه أیضاً فیملکه الذی یحوزه بالاقتطاع، وقریب من تصور عدم إمکان تملکه من أحد إلا أن الحائز أو البنک الذی یحتفظ به یمتلک حق الاختصاص فقط.

*** الجهة الرابعة: حکم ما یزرع من الأعضاء.

ص: 258

إذا زرع العضو فی جسم حی أو میت فیحکم بأنه من الجسم المزروع فیه إذا التحم به أو اختلط المزروق فی جسم من یزرق فیه، فلو کان العضو مزروعاً فی جسم إنسان مسلم حکم بطهارته الذاتیة وإن کان مباناً من المیت، وإن کان الاحتیاط یستدعی غسل العضو قبل استخدامه فیما یعتبر الطهارة فیه، ولا یجری الاستصحاب هنا لیقال بالنجاسة الثابتة له حال الموت لتبدل الموضوع بعد الالتحام وسریان الحیاة.

وکذلک الأمر فیما لو زرع عضو من حیوان نجس العین فی جسم حیوان طاهر، أو عضو من الکافر فی جسم الإنسان المسلم أو عضو من حیوان محرم الأکل فی جسم حیوان محلل، ففی جمیع الحالات یحکم بأنه من الجسم المزروع فیه بعد التحامه وحکم العرف بالجزئیة، وهکذا لو کان العکس فی جمیع هذه الصور، والأمر نفسه فی تزریق الدم.

أما قبل الالتحام وصدق الجزئیة فإن رأی العرف الدقیق أنه لا یزال جزءاً من الحیوان أو الإنسان الذی أخذ منه جری علیه حکمه أیضاً، وأما مع الشک وعدم البت بالأمر فحیث لا یعلم تبدل الموضوع لا بد من جریان الاستصحاب والحکم علیه بما کان یحکم به قبل الزرع.

***

ص: 259

هذا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمین، وصلی الله علی محمد وآله الطیبین الطاهرین.

ص: 260

الفهارس

الفصل الأول/ فی أدلة أمارة سوق المسلمین 11

الفصل الثانی/ آثار أمارة سوق المسلمین 21

الرّبا 37

الفصل الأول: فی ربا المعاوضة 41

شرائط الربا فی البیع 53

الشرط الأول: وحدة الجنس فی العوضین. 53

الشرط الثانی: اعتبار الکیل والوزن فی العوضین 61

الفصل الثانی: ربا القرض 67

حکم ما یؤخذ ربا من الأموال 71

أما ربا البیع فقد ذکرت له احتمالات ثلاثة: 75

وأما بطلان البیع الربوی فقد استدل علیه بوجوه: 80

تأجیل أحد العوضین 83

مجهول المالک 95

ص: 261

ملکیة الدولة 95

هل الدولة _ بمختلف أنواعها _ تملک أم لا تملک؟ 95

وقد استدل من قال بعدم الملکیة بأمور: 95

المصارف والبنوک 95

أقسام البنوک 95

الودائع المصرفیة 95

الودائع الثابتة: 95

الودائع غیر الثابتة: 95

التوفیر: 95

المال ومنشأ المالیة فی المالیات 95

مالیة الأوراق النقدیة: 95

التعامل بالأوراق النقدیة 95

المورد الأول: فی بیع الأوراق المالیة: 95

المورد الثانی: فی قرض الأوراق المالیة: 95

تنزیل الأوراق 95

البحث الأول: فی تنزیل الأوراق النقدیة: 95

ص: 262

البحث الثانی: فی تنزیل الکمبیالات: 95

المورد الثانی: فی کمبیالات المجاملة 95

الکفالات المستحدثة 95

الجهة الأولی: فی صحة العملیة: 95

فتح الاعتمادات 95

التأمین 95

مصرف الدم والأعضاء والنطف 95

الفصل الأول/ فی مصرف الدم 95

الفصل الثانی/ مصرف الأعضاء 95

الفهارس 95

ص: 263

رقم الإیداع بدار الکتب والوثائق

تحت رعایة مکتب سماحة آیة الله العظمی المرجع الدینی الکبیر الشیخ بشیر حسین النجفی(دام ظله)

جمهوریة العراق _ النجف الأشرف

http://www.anwar-n.com info@anwar-n.com

http://www.alnajfay.com info@alnajfay.com

هاتف: 33348 - 033/ نقال: 07801004758

ص.ب:732 مکتب برید

ص: 264

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.